خدمة نقل عام مجاني وشبه مجاني مكلفة لكن مردودها أفضل ..
كتبت : نوره سليم
استخدام النقل العام ليس أمرا جذابا خصوصا لمن اعتاد استعمال سيارته الخاصة مثلما كان فرسان العرب قديما يستعملون خيولهم. فلا يمكن إقناع المواطن باستخدام النقل العام إلا بتعميم الخدمة على جميع الخطوط وتوفيرها بصورة مجانية وشبه مجانية تكون مغرية وفيها الكثير من التوفير والا فالنقل العام لن يكون مشروعا ناجحا.
من المؤكد أن خدمة نقل عام مجاني وشبه مجاني ستكون مكلفة إلا أن مردودها بعيد المدى سيكون أفضل. وقد بدأت به العديد من المدن الأوروبية وبعضها يقدم الخدمة مجانا بالكامل مثل بعض مدن بلجيكا وهولندا وألمانيا. وكانت لوكسمبرغ أول دولة أوروبية تحقق فكرة النقل العام المجاني لجميع السكان. وكذلك بدأت معظم المدن الأوروبية بتوفير خدمة النقل العام المجاني لفئات عديدة مثل الطلاب والجنود والمتقاعدين مع خدمة شبه مجانية لباقي الفئات.
منذ أن تغول القطاع الخاص على القطاع العام كان هناك من زين للحكومة فكرة الإهمال المتعمد لهذا القطاع وتسهيل استيراد السيارات وخصوصا المستعملة فأصبحت البلد مكب نفايات لسيارات العالم. تزيد أعداد السيارات في المملكة بمعدل خمسة وسبعين ألف سيارة سنويا. واصبح الأردن في المرتبة الخامسة بنسبة استيراد السيارات المستعملة بقيمة 447 مليون دولار سنويا وأصبحت 70 في المئة من سيارات المملكة من السيارات المستعملة. وازدحمت البلاد وفق تصريح لمدير سابق للجمارك بسيارات قديمة وغير آمنة وكلفة صيانتها عالية جدا ولا توفر الوقود وهي الأكثر تسببا للحوادث وبعضها حوادث مميتة.
سياسة فتح السوق للسيارات سواء جديدة أو مستعملة وما تبع ذلك من توسع في استيراد القطع والبنزين ساعد الحكومة على تحصيل سيولة تغطي نفقاتها وتحل مشكلاتها المالية. ولكن إلى متى يمكن الاستمرار في هذا النهج الذي سيؤدي إلى الانهيار المدمر؟
ادعت الحكومات المتعاقبة أن قطاع النقل العام يحظى بأولوية قصوى في عمل وخطط الحكومة الهادفة إلى الارتقاء بمستوى خدمة النقل العام وأنها تسعى إلى إيجاد الحلول المناسبة إلا أنها على أرض الواقع لا تفعل شيئا. في عام 2016 أجرت مؤسسة دولية دراسة على قطاع النقل العام في الأردن وخلصت إلى نتيجة مفادها انه “لا يبدو بأن النقل العام من أولويات الدولة الأردنية ولا يحظى بأي شكل من أشكال الاهتمام”.
النقل العام المجاني وشبه المجاني يجب أن يكون خدمة من القطاع العام للمواطنين مثلما هي خدمات التعليم والصحة. لكن الحكومة أهملت كثيرا في مجال خدمة النقل العام لصالح الشركات الخاصة. في الأردن مليون وسبعمئة وثلاثين ألف سيارة حسب إحصاءات إدارة السير المركزية حتى نهاية عام ألفين وعشرين وقد استهلكت سيارات الأردنيين في العام ألفين وتسعة عشر ما مجموعة ألف وسبعمئة وواحد وخمسين مليون لتر بنزين. وهذا رقم ليس فقط كبيرا وغريبا بل مدمرا للاقتصاد الوطني على المدى الطويل.
هذه السيارات جعلت معدلات التلوث في المملكة وفي عمان خصوصا من أعلى النسب وهي بحسب وزارة البيئة وصلت إلى ارتفاعات ملحوظة وخطيرة وفق الشبكة الوطنية لمراقبة تلوث الهواء. وكذلك نسبة الأمراض السرطانية في الأردن من أعلى النسب في العالم وبحسب آخر إحصاء أعلنته وزارة الصحة يعود إلى عام 2016وصلت الحالات السنوية إلى 8152 حالة (حاولت الاتصال مع الوزارة لتحديث الرقم لكن هاتف مدير السجل الوطني للسرطان لا يرد برغم تكرار المحاولة). وهذا معناه أن تكلفة العلاج تستنزف من موازنة الدولة حوالي خمسين مليون دينار سنويا عدا عن كلفة إرسال مصابين إلى مستشفيات عالمية.
أما الخسائر الناجمة عن الحوادث فوصلت إلى عشرات الملايين سنويا بحسب إحصاءات إدارة السير المركزية وكانت في عامي ألفين وتسعة عشر وألفين وعشرين 324 مليون دينار و 296 مليون دينار على التوالي.
في محاولة للحل أنشأت أمانة عمان مشروع باص عمان لكنه كان مشكلة وليس حلا. فالأمانة مضطرة أن تدفع الملايين لشركة النقل التي تعهدت بتشغيل الباص لأن حجم استعماله ليس كافيا لتعويض تكلفة تشغيله. بحسب أحد الكتاب الذين قاموا بتحليل عمل باص عمان خلال الشهور الستة الأولى من تشغيله تبين أنه نقل فقط عشرة ركاب في الساعة.
تضع الحكومة نفسها في خدمة القطاع الخاص دون الالتفات إلى الهدر المالي نتيجة ذلك. فالبنية التحتية لمشروع الباص سريع التردد الذي لا يزال العمل فيها مستمرا منذ اثني عشر عاما كلفت مئات الملايين عدا عن تعطيل مصالح المحلات التي أغلقت نتيجة التحويلات الجائرة ونتيجة هدر الوقود جراء أزمات السير الخانقة التي نجمت عن التحويلات والنتيجة لم تظهر بعد والمردود لن يعوض ما تم إنفاقه خصوصا أن تشغيل الباص سيفوض إلى شركة خاصة وتقوم الحكومة بتعويضها بملايين الدنانير كفرق أسعار للوقود والتذاكر.
أعطت الحكومة امتياز النقل إلى شركة هي بحسب موازنتها المعلنة خاسرة وعليها ديون تزيد عن حجم رأسمالها وعلى الحكومة أن تدفع للشركة تعويضا عن خسائرها بالملايين. ومطالبات الشركة التي وافقت عليها الحكومة بحسب موازنتها لعام 2020 تزيد عن 11 مليون دينار. وتشمل فرق سعر الوقود والتذاكر كما تسعى الشركة للحصول على إعفاءات جمركية وضريبية بقيمة 23 مليون دينار. وسبق أن حصلت الشركة على منحة حكومية بقيمة خمسة عشر مليون دينار عام ألفين وعشرين.
استخدام النقل العام حاليا غير مشجع وثقافة النقل العام غير منتشرة لأن النقل العام الرخيص والشامل والنظيف غير معمم بعد. كما أن محاولات تشغيل حافلات يصطدم بأسعار تذاكر عالية تجعل الفرق بينها وبين كلفة استخدام السيارة الخاصة ضئيلا وغير مشجع. وبناء ثقافة النقل العام يحتاج عاملين مهمين الأول توفير وتعميم وسائل النقل العام والثاني أن تكون أسعار التذاكر مجانية وشبه مجانية ليصبح استخدام الباص أقل كلفة من استعمال السيارة الخاصة. التذاكر المجانية تكون لكل مواطن فوق الستين. أما شبه المجانية فتكون من خلال بطاقة شهرية يستخدمها المواطن على جميع الخطوط في كل الأوقات.
النقل العام المجاني وشبه المجاني مع توفير الخدمة الشاملة لجميع المناطق هي السبيل الوحيد للوصول إلى تخفيض في فاتورة استيراد البنزين وفاتورة النفط بشكل عام. وكذلك التوفير في استيراد السيارات وتخفيض ملموس في الكلفة البشرية والمادية للحوادث. وتعميم النقل العام وتقليص استخدام السيارات الخاصة سيقلل التلوث وبالتالي يخفض إصابات السرطان ومن ثم كلفة العلاج.
المطلب الوطني الآن هو تأسيس شركة وطنية أردنية للنقل العام لتتملك سبعمئة وخمسين باصا (كلفتها مئة مليون دينار تقريبا) يتم نشرها على جميع مناطق عمان وكذلك على خطوط عمان مع كل من الزرقاء والسلط ومادبا وأبو نصير بحركة ترانزيت مباشرة.
النتائج الحقيقية لمشروع وطني مثل هذا ستكون بعيدة المدى وعلى الحكومة أن تتحمل بعض الخسائر لأجل المكاسب الكبيرة التي ستحصل عليها في المستقبل. فمشروع نقل عام شامل ورخيص وشبه مجاني يجب أن يقابله إلغاء ما يسمى في الموازنة علاوة نقل وبدل تنقلات وقيمتها أكثر من 25 مليون دينار. وكذلك يمكن توفير استخدام السيارات الحكومية وبالتالي توفير استهلاك الوقود وتوفير في الصيانة وقطع الغيار. كما ستوفر الحكومة ما تدفعه لشركة النقليات الحالية من فروق أسعار الوقود والتذاكر وتزيد عن 8-10 ملايين دينار. كما سينخفض انفاق العملات الصعبة في استيراد النفط والبنزين والسيارات والقطع وسيقلل هدر البنزين لأنه سيقضي على الأزمات وسيؤدي إلى نظافة في البيئة تخفض نسبة أمراض السرطان وبالتالي تخفض كلفة العلاجات. ستنخفض حوادث السيارات فتنخفض الخسائر وستنخفض كلفة إدامة وصيانة الشوارع بالإضافة إلى كثير من المكاسب الإيجابية الأخرى.
كل ما نحتاجه هو قرار وطني يحل المشكلة من جذورها ويوفر على الخزينة ويخفض العجز. واتخاذ القرار الجريء بإنشاء شركة وطنية للنقل العام تقوم بهذه الخدمة وبهذه الطريقة الشاملة يحتاج إلى حكومة تعمل ولا تخضع لإملاءات أصحاب المصالح