رحلتي إلى اليونان
كتب - د . عبد الرحيم ريحان
سافرت فى منحة إلى اليونان عن طريق دير سانت كاترين، وفى اليوم الأول
استقبلنى مسئول دير سانت كاترين بمقر دير سانت كاترين بأثينا المسيو نيقولا وكان أبًا لى ألجأ إليه فى كل شيء استقبالًا حافلًا وعرّفنى كيف أذهب إلى جامعة أثينا صباح اليوم الثانى وأتعرف على أساتذة الآثار بنفسى وهم يعلمون أنى من طرف الدير وبالفعل تعرفت عليهم وعزمونى على الغذاء فى مطعم الكلية وأخذنا نتحدث عن الآثار وكنت اتحدث معهم الإنجليزية فلم اتعلم اليونانية بعد وارتحت لهم ولحديثهم وقالوا لى غدًا اختبار قبول الدراسات العليا
وذهبت فى اليوم الثانى ووجدت أن من كان يجلسون معى هم أنفسهم من سيختبرونى وبالطبع كانوا قد أعلنوا النتيجة من الأمس فقد عرفونى جيدًا
تعلم اليونانية.
وبدأت اليوم التالى فى دروس اللغة اليونانية وكان يدّرس لنا معلم ومعلمة المعلم اسمه مينالاوس لشرح القواعد والمعلمة أفروديتى لشرح كيفية التحدث باللغة واستخدام الأغانى والموسيقى وهم شعب عاشق للموسيقى بشكل جنونى وكان الطلبة من جنسيات مختلفة، من مصر ولبنان وفلسطين وسوريا ومن دول إفريقيا ومن النرويج وروسيا، وكان الأكثر تفوقًا فى اللغة اليونانية هم العرب، وكان من أنبغهم طالب لبنانى تعلم اللغة فى لبنان قبل مجيؤه إلى اليونان وطالب مصرى اسمه عبد الرحيم ريحان لم يعرف شيء عن اليونانية إلّا فى اليونان ورغم ذلك عشق اللغة وكان من المتفوقين هو والشاب اللبنانى والأكثر تجاوبًا مع المعلمين
واشتهرت فى دروس اللغة اليونانية بكثرة نقاشى مع المعلمة أفروديتى فحين تقول “رف” باليونانى أقول لها أصلها عربى تقول “خصابس” باليونانى وتعنى جزار أقول لها أصلها عربى “قصّاب” تعنى جزار وهكذا كلمات كثيرة فقالت لى انت جاى تتعلم يونانى ولا تعلمنا العربى؟ قلت لها "أنا مش جاى من أى بلد دى بلد العلم والحضارة جاى أتعلم وأعلّم" وهكذا كانت تحب مناوشاتى معها وكل ما تقول كلمة تقولى دى أصلها ايه بالعربى ولا الهيروغليفى
صدمة اختبار اللغة اليونانية
وكان اختبار اليونانية فى نهاية العام فى غاية الصعوبة الذى لم أتوقعها فلم يرد مما تعلمته من دروس وأخذته من كلمات فى الامتحان بل كله قطع جديدة ومفردات جديدة تعتمد فقط على القواعد الأساسية للغة وكان هناك اختبار تحريرى واختبار شفوى، وفى الاختبار التحريرى صدمنى الامتحان ووجدت ضالتى فى موضوع الإنشاء باليونانية والذى كان عن الإيجابيات والسلبيات التى شاهدناها فى اليونان، ومن الطبيعى أن أنبرى فى كتابة الإيجابيات حتى أنجح فى اللغة، ولكنى فعلت عكس ذلك فقد بدأت بالسلبيات والتى جاوزت ثلاثة أرباع الموضوع والإيجابيات أقل من ربع الموضوع من مبدأ "ضربوه على عينه العورة قال ما هى عورة عورة" فلم أبالى بالنتيجة لصدمتى من الامتحان التحريري
ثم تلاه الاختبار الشفوى وكان الممتحن هو صديقى العزيز المعلم مينالاوس معلم اللغة وأمامه ورقة إجابتى فى الامتحان التحريرى وهو الذى يدّرس لى طوال العام ويعرفنى جيدًا وأول كلمة قالها أنت جاى اليونان ليه؟ قلت له للحصول على الدكتوراه قالى واشمعنى اليونان؟ قلت له عشان جاتلى بعثة لليونان قال لى ليه مش عاجبك إنى احنا بنعمل مظاهرات كثير زى ما كتبت فى الإجابة؟ قلت له عشان بتعطل الحياة تمامًا وأنا عن نفسى كل ما اروح الجامعة ألاقى مظاهرة أخذها مشى للجامعة غير تأثيرها على اقتصادكم وأنا عشان بحبكم نبهتكم لسلبياتكم لأنى حسيت إنى فى بلدى ومحستش لحظة واحدة هنا إنى غريب ولا حسيت بمعاملة مختلفة إنى مسلم ودير سانت كاترين هنا هو بيتى الثانى، واكتفى بذلك وفوجئت بنجاحى فى اللغة واجتزت أول خطوة للحصول على الدكتوراه وهى اللغة.
السكن بأثينا
على الجانب الآخر كانت المنحة لا تفى إلا بالإعاشة يدوب والأسعار كانت مش غالية قوى كانت العملة الدراخمة ولكن يستحيل أن أجد سكن ولو بكل قيمة البعثة فأقمت فى فندق لمدة 15 يوم استضافة من الدير ثم جاء بى للإقامة فى مكتب دير سانت كاترين نفسه بأثينا أمام السفارة الأمريكية، وكان عبارة عن مكتب وحجرة للنوم وكنت أجلس مع مدير المكتب الأستاذ جورج بعد عودتى من الكلية لأذاكر على المكتب، فحجرة النوم بها سرير فقط وكانت تأتى إلى المكتب تبرعات مالية من وقت لآخر ليقوم الدير بتوزيعها، وفى البداية كان جورج حذرًا منى فهو لا يعرفنى ويضع أمامى كل هذه الأموال وبعد يومين فقط وجدته يترك كل الأموال أمامى على المكتب كما هى دون أن يضعها فى درج ويترك المكتب مفتوحًا فحمدت الله على هذه الثقة الغالية فى فترة وجيزة وحمدت الله على نعمة الإسلام الذى علمنى الأمانة والإخلاص وكانت نتيجتها محبة وثقة الناس.
شقة فاخرة
وبعد فترة قلت لمسيو نيقولا أن إقامتى فى المكتب لا تتيح لى فرصة للمذاكرة ضوضاء فى المكتب طوال اليوم وكنت أذهب إلى إحدى الحدائق للمذاكرة، فأبلغ مطران دير سانت كاترين قداسة المطران داميانوس متعة الله بالصحة والعافية فقام بإعطائى شقة فى أرقى أحياء أثينا منطقة كاليثيا قرب مطار أثينا وكانت شقة واسعة حولى 200 متر مربع مع أزمة السكن فى أثينا يسكنها جيلين وربما ثلاثة الجد والإبن والحفيد بأسرهم حيث أن السكن الغالب فى اليونان هو “جرسونيره” حجرة بمنافعها وهذا سكن معظم الشباب، وكانت الشقة مليئة بالأيقونات معلقة على الحوائط والأيقونات صور دينية مسيحية من الكتاب المقدس وسير القديسين والشهداء ولم أحرك حتى أيقونة من مكانها وكنت أمارس كل صلواتى داخل الشقة وختمت القرآن عدة مرات
بركات رجل مخابرات
كان لى زملاء الدراسة من عرب وجنسيات أخرى وأصدقاء آخرين غير زملاء الدراسة من الطلبة المبعوثين من أقسام اليونانى واللاتينى بكليات الآداب لعمل الدكتوره وعلى رأسهم الدكتور طارق رضوان والذى أصبح المستشار الثقافى لمصر باليونان فيما بعد وهو صديق عزيز حتى الآن ويعمل أستاذًا بجامعة الأزهر حاليًا
وعندما علم زملائى وأصدقائى بأنى مقيم فى كاليثيا بدأت تساورهم الشكوك خاصة أننى دائم الحديث عن مصر وقيمة مصر وكل كلامى رسائل فى حب مصر لدرجة أننى عرفت “بركات المصرى” وهناك أنادى بإسم الجد اسمى عبد الرحيم ريحان بركات، وكانوا يهتمون بمعنى الأسماء وكلمة بركات وبركة لديهم لها قيمة كبرى ومعنى جميل ولدى كل الشعوب أيضًا، وكانت حين تأتى سيرة مصر يرشحونى للحديث، فقد ذهبنا فى رحلة مرة إلى متحف الإسكندر الأكبر فقالوا بركات هو اللى يشرح وهكذا
ومع كل هذه الحيثيات شك كل زملائى أننى أعمل بالمخابرات المصرية وجئت لكتابة تقارير عنهم، وما زاد فى ذلك صداقتى لزميلين يدرسان اللغة اليونانية وكانا ضباطًا فى القوات المسلحة المصرية يدرسا اليونانية ويأتيا الجامعة بالزى العسكرى وأنا ماشى معاهم طبعًا، غير ذلك كان أول ما سألت عليه أين أصلى الجمعة؟ ففى البداية قالوا فى جامع فى السفارة المصرية روح صلى فيه فكنت أصلى معهم حوالى شهر حتى عرفت مكان المسجد فتجمعت كل الشواهد لتؤكد شكوكهم بأننى أعمل مع المخابرات المصرية، أولًا عشقى الغيرعادى لمصر، صداقتى لضباط قوات مسلحة، ترددى على السفارة المصرية، سكنى فى أجمل أحياء أثينا وأنا مجرد طالب دراسات عليا
بركات وزيرًا لنصف ساعة
كان قداسة مطران دير سانت كاترين أمد الله فى عمره وأكرمه بموفور الصحة والعافية هو الأب الروحى لى فى اليونان وكان يحبنى حبًا شديدَا وكان أول من يسأل عليه حين قدومه من مصر إلى اليونان "بركات عامل ايه" ويسألنى عامل ايه فى الدراسة ووقت نتيجة امتحان اللغة كان حريصًا على الاطمئنان على وقابلنى قائلًا “بيرسا” يعنى عديت باليونانية قلت له الحمد لله
وكان طيلة إقامته فى اليونان يأخذنى فى كل الندوات والتشريفات معه لدرجة مرة قالى "أنا عازمك النهاردة على مفاجأة كبيرة" فالمفاجآت لدينا هى ما لذ وطاب من مشهيات اللحوم والطيور مشوية ومحشية وكانت فعلًا مفاجأة فهى فول وطعمية وباذنجان وبطاطس مقلية قلتله جات فى وقتها قالى مش قلتلك مفاجأة قلتله "بس مرة واحدة كفاية" قعد يضحك وربت على كتفى
وذات يوم كنا فى احتفالية كبرى يحضرها قداسة مطران دير سانت كاترين ويحضر بها كبار الشخصيات الدينية والسياسية والدبلوماسية ودعانى بالطبع وقبل بدء الجلسة وكان يجلس قداسته بالمسرح استعدادًا لبدء الجلسة مع كبار الشخصيات فشاهدنى فنزل بنفسه ليسلم علي وحينها نظر لى كل الحاضرين فى دهشة وإعجاب واحترام شديد سائلين أنفسهم من يكون هذا الشخص الذى ينزل المطران بنفسه ليسلم عليه؟ لا بد أن يكون مسئول مصرى كبير، وزير أو دبلوماسى، لذا حرص كل الموجودين على يصافحونى ويلتقطوا الصور التذكارية معى وعشت وزيرًا لمدة نصف ساعة حتى أعلن عن بداية الجلسة
احترم دينك يحترمك الجميع
أول ما سألت عليه فى اليونان ما معنى كلمة خنزير قالوا لى “خرينو” وذلك حتى لا أقع حتى ولو خطأ فى أكله وكانوا هناك يسألونى “مسلمانو أوشى خرينو” انت مسلم يبقى بلاش لحم خنزير
الموقف الثانى الذى هزنى من أعماقى كنا فى أحد العزومات الكبرى وجلست مع شخصيات قاماتها عالية على نفس الطولة نتجاذب أطراف الحديث وأثناء الطعام عزم عليا أحد الشخصيات الكبرى أن أشرب خمرة فقلت له بأدب أنا لا أشرب الخمر قال لى لماذا؟ قلت له لأننى مسلم؟ قال لى ولماذا يمنعها الإسلام وفيها فوائد قلت له الإسلام ذكر أنه فيها فوائد ولكن ضررها أكثر قال لى وما دليلك على ذلك؟ فقرأت له الآية الكريمة "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا" سورة البقرة آية 219
والآية الكريمة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" سورة المائدة آية 90
وشرحت المعنى بالتفصيل ومدلولاته بأسلوب هاديء بسيط مقنع
فصمت العالم الكبير لبرهة ثم قام وأحضر لى زجاجة مياه غازية وقالى لى تفضل، قلت له "كبيرة جدًا من حضرتك تقوم وتجيبها"، فقال لى الكلمة التى لم أنساها طيلة عمرى “ مش كبيرة على دينك وبلدك وشخصك الكريم” لقد رآنى هذا العالم الكبير قامة بثلاثة أشياء دينى وفهمى له الفهم الصحيح، بلدى واعتزازى بها أينما ذهبت، احترامى لنفسى والذى أوجب احترام الآخرين
وهذا أبلغ رد على من يرفضوا التحدث مع الغرب بلغة القرآن الكريم على أساس أنهم لا يعترفون به ولكنهم تناسوا شخصية المتحدث وكيفية التحدث حتى تصل الرسالة الصحيحة
وأضرب مثلًا بسيطًا حين سأل معلم اللغة اليونانية كل طالب أول السنة الجديدة بمناسبة الكريسماس هل ذهبت إلى الكنيسة؟ وسألنى نفس السؤال هل ذهبت إلى الكنيسة؟ قلت له لا، قال لماذا؟ قلت له لأنى مسلم، فخرجت منه كلمة عفوية لا يقصدها بل هى ميراث إعلام غربى مضلل فقال لى “بس انت كويس” ثم تراجع ليؤكد لى أنها ذلة لسان قلت له ليست ذلة لسان ولكن ميراث إعلام مضلل أوصلكم لهذا، وسألته هل كنت تعرف أنى مسلم أم مسيحى إلا فى هذه اللحظة؟ قال نعم، قلت له إذا فسلوك المسلم مثل المسيحى والفرق هو إعلام الفرقة الذى يزرع الفتن بين الشعوب وربط أى حدث إرهابى بالإسلام وأعطيته أمثلة لإرهابيين فى جميع الأديان
سلمولى على مصر
وقد أتيحت لى أثناء تواجدى لعامين باليونان رجعت بإرادتى بعدها لظروف أسرية وآثرت أن أحصل على الماجستير والدكتوراه من بلدى وبدأت بتمهيدى ماجستير شأنى شأن كل طالب بكليتى المحبوبة كلية الآثار جامعة القاهرة وساعدتنى دراستى للعمارة والفنون البيزنطية بجامعة أثينا أن أختار موضوع الماجستير عن الآثار المسيحية بسيناء وقد استعنت بمصادر كبرى بلغات مختلفة أثناء تواجدى باليونان وتجوالى بين مكتبة جامعة أثينا والمكتبة الفرنسية والبريطانية والأمريكية هناك
وقد اتيح لى خلال رحلات الجامعة ورحلات خاصة لدير سانت كاترين هناك أن أزور معظم مدن اليونان من سالونيكى وقولا شمالًا إلى جزيرة كريت جنوبًا والذى وجدت معظم من فيها من البحارة البورسعيدية والدمايطة لدرجة إنى لما نزلت كريت لقيت الناس بتتكلم باللهجة البورسعيدى “تعالى يله” فسألت أنتوا متأكدين إننا فى كريت ولا بورسعيد، كما زرت جزيرة سانتورينى المشهورة بجزيرة العشّاق وأوليمبيا وغيرها
وساعدنى سكنى فى كاليثيا قرب مطار أثينا أن أذهب وقت المغربية وكنت أعلم بميعاد الطائرة المغادرة من أثينا إلى القاهرة وكنت أنظر إليها وأرقبها وأحمّلها سلامات لأهلى فى مصر وكانت ترد فى ذهنى الكلمات التى تغنت بها المطربة صباح من كلمات حسين السيد ألحان محمد الموجى
سلمولي على مصر سلمولي .. سلمولى ع الحبايب وابعتولي
سلام أمانة والنبى سلام أمانة .. والشوق أمانة والنبى الشوق أمانة
سلمولي ع الحبايب وابعتولي .. سلمولي على مصر سلمولي
وأمانة لما تفوتوا من جنب الحسين
تجيبولي شوية من النور اللي على الصفين
خان الخليلى على يمينكم هداياه وحشانى
تبقوا تجبولى توت عنخ المنقوش فى صوانى
وابقوا افتكرونى من الصاغة باسورة لولى
سلمولى على مصر سلمولى
سلمولى ع الشوارع .. سلمولى عل الكبارى
والسما والبدر طالع .. والهوا ساعة العصاري
سلمولى ع الحبايب اللي فاكر واللي ناسى
وإن لقيتوا حد غايب ابعتولوا مية تماسى
رشوا دموعي وضحكتي واجمل سلامي
على كل حته شاركتني أسعد أيامي
من يوم ما مشيت أول خطوه وفردت طولي
سلمولي على مصر سلمولى .. سلمولي ع الحبايب وابعتولي
حتى شاءت الأقدار أن أعود إلى بلدى المحبوب لأكمل دراستى مؤمنًا أن كل خطوة نصيب متمنيًا أن أدفن فى البلد الذى أحببته، فمهما كانت بلاد العالم جميلة فلا يوجد أجمل من بلدنا المحبوب مصر
بلادى وإن جارت عليا عزيزة أهلى وإن ضنوا عليا كرام .