جزيرة تنيس ( 3 ) تنيس في العصر الإسلامي
كتب د. عبد الرحيم ريحان
فى سلسلة التتابع الحضارى لجزيرة تنيس والتى تعد إضافة علمية كبرى للمكتبة العربية نستكمل مع الآثارى طارق إبراهيم الحسيني مدير عام منطقة آثار بورسعيد والمنزلة بقطاع الآثار الإسلامية والقبطية بوزارة السياحة والآثار جزيرة تنيس (3) تنيس فى العصر الإسلامي.
ويشير الآثارى طارق إبراهيم الحسيني إلى أنه عند فتح مصر سنة 20ۿ/641م كان بتنيس حامية من الروم وقاتلوا أصحاب عمرو بن العاص، ومع بداية الفتح الإسلامى لتنيس 21هـ/ 642م وصفت بأنها مجرد أخصاص من قصب – وعرفت بذات الأخصاص – وظلت هكذا إلي أيام الدولة الأموية ولم يغير المسلمون الفاتحون في تخطيطها شيئًا سوي ما جاء عند الواقدي "وربما استقر الجند في الأخائز أو الدور التي تركتها الحامية الرومانية التي كانت تقيم بها" وربما ظلت المدينة علي شكلها خلال عصر الدولة الأموية ثم جاء ازدهارها ونموها العمراني حين برزت كمدينة متخصصة في صناعة أنواع من النسيج المشهور.
واصلت المدينة نموها العمراني خلال حكم الخلافة العباسية إذ أصبحت تنيس في العصر العباسي أشبه بولاية قائمة بذاتها، خاصة حين كانت مسرحًا للأحداث التي وقعت منذ أواخر القرن الثاني الهجري في الفترة محـل النزاع بين ولدي هارون الرشيد الأمين والمأمون.
فنزلها عبد العزيز الجروي واتخذها كرسيًا لحكم مملكة الساحل الممتدة علي ساحل مصر علي البحر المتوسط فكانت تبسط سلطانها علي الإسكندرية وجنوبًا حتي أبواب الفسطاط بل امتدت إلي الصعيد مدة من الزمن وهذه الفترة فيما بين سنة
( 199هـ / 210 هـ/814 / 825 م) قضتها المدينة كعاصمة لما يسيطر عليه عبد العزيز الجروي من ولاية مصر لذلك أصبحت تنيس موضوعًا هامًا لإقامة مشروعات عمرانية علي نطاق واسع بالمدينة حيث قام عبد العزيز الجروي ببناء الصهاريج وتجهيزات مائية أخري في أوائل القرن الثالث الهجري فنما عمران المدينة واتسعت مرافقها بمختلف المنشآت والأبنية المدنية والدينية.
وليس هناك شك في أن هذه الإنشاءات كانت لتستوعب الزيادة السكانية من الجنود الذين رافقوا الجروي إلي جانب أقاربه من قبيلتي لخم وجذام وقد أدي ذلك إلي حدوث تغير أخر في التكوين الديني والعرقي للسكان بجانب السياسات العمرانية في المدينة حيث أفادت هذه الإنشاءات في البينية التحتية للمدينة وفي اتساعهـا وعمرانها علي المدي البعيد .
وينوه الآثارى طارق إبراهيم الحسيني إلى أن هذه الفترة وما سبقتها من أحداث سياسية وفي ظل ازدهار ونمو المدينة الاقتصادي قد أدي إلي إبراز أهمية المدينة وجعلها هدفًا لكل من الغزاة الأجانب الباحثين عن الغنائم، والخارجين من العرب علي الحكومة المركزية ليتخذوها قاعدة لهم للسيطرة علي البلاد.
لذلك رأت السلطات المركزية في ذلك الوقت حاجة المدينة إلي نوع إضافي في تحصين المدينة خاصة بعد خراب حصن الأشتوم علي آثر غارة البيزنطيين في عام 238 هـ / 853 م وإن كانت التدابير قد اتخذت في إنشاء سور حول المدينة قبل هذه الغارة حيث يروي ياقوت " أن سور تنيس ابتدأ بنيانه في شهر ربيع الأول عام 230 هـ/ 844 م أيام الخليفة الواثق ابن المعتصم وفرغ منه في عام 239هـ /853 م في خلافة المتوكل علي الله العباسي.
أمّا في حكم الدولة الطولونية
(254 – 292هـ / 868 – 905 م) فقد شهدت تنيس منذ النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي عهدًا جديدًا من الرخاء والازدهار في ظل الطولونيين، فقد زارها أحمد بن طولون سنة 269هـ/ 882 م وأنشئأ بها عدة صهاريج عرفت بصهاريج الأمير وقد أقدم علي بناء هذه الصهاريج ليوجد لأهل المدينة وجنوده المرابطين في المدينة المؤنة من الماء العذب.
فمنذ تولي بن طولون شئون مصر اتجه إلي دعم قوته البحرية ليدفع عن نفســه وولايته محاولات الخلافة العباسية استرداد نفوذها فيها، ومن ثم اتجه إلي الإهتمام بشئون الأسطول والثغور المصرية وكانت تنيس بحكم موقعها أقرب المرافىء إلي بلاد الشام – التي هيمن عليها أحمد بن طولون وضمها إلي ولايته في عـام ( 264 ﻫ /877 م) - ولهذا جعل من تنيس واحدة من أهم قواعد الأسطول الطولوني.
ولم تقف أعماله المعمارية عند إنشاء الصهاريج بل تعداها إلي إنشاء مجموعة من الحوانيت في السوق تدعيمًا للنمو الاقتـصادي والتجاري المستمر للمدينة.
فتنيس في عصر الطولونيين لم تكن ثغر واجب حمايته فقط بل كانت من أهم مدن مصر الصناعية والتجارية إلي جانب أنها كانت تشارك بالأسطول والحامية المرابطة بها في تأمين سواحل الشام.
وأردف الآثارى طارق إبراهيم الحسيني بأنه فى العصر الفاطمي ( 358 هـ/ 969م- 567ﻫ/1171م) وجه الخلفاء الفاطميين إلي تنيس اهتمامًا كبيرًا لأهميتها الاقتصادية البالغة فكانت ولاية تنيس تسند إلي الأشخاص ذوي الكافيات وقد كرس هؤلاء جانبًا كبيرًا من اهتمامهم لتعمير المدينة بالمباني المختلفة كما لم يقصروا في الأشراف علي أهم مرافق المدينة.
فشهدت تنيس في عصر الدولة الفاطمية نشاطًا بحريًا واضحًا إذ أنها كانت مركزًا هامًا للأسطول الفاطمي الذي تولي بالإضافة إلي حراسة السواحل المصرية القيام بمهام حربية في الشام، ففي بداية العصر الفاطمي شاركت تنيس دمياط والإسكندرية في الحملات التي خرجت إلي صور وطرابلس لحفظ حصون الشام والدفاع عنها.
كما ظلت المدينة قاعدة للأسطول التجاري خاصة السفن القادمة من الشام، كما شهدت في هذا العصر ازدهارًا عمرانيًا لم تشهده من قبل إذ عمرت بالمباني الفخمة والمنشئات الجليلة فأقيمت المساجد والكنائس والقصور وزخرت المدينة بمختلف أنواع المنشآت الأخرى. حيث كانت المدينة في هذه الفترة – العصر الذهبي للمدينة – مثل كل الثغور الاقتصادية الهامة تميزت بكثرة منازلها وقصورها واكتظاظها بالسكان خاصة في المناطق المشرفة علي البحيرة والقريبة من ميناء المدينة التجاري ووسط المدينة حيث الأسواق الفخمة فقد كان لهذه المنشآت التجارية تأثيرًا علي النسيج العمراني فتركزت حولها الأنشطة التجارية والاقتصادية خاصة مباني ومساكن التجار العابرين.
أمّا فى عهد الدولة الأيوبية وبعد خراب الفرما (545 ﻫ / 1150 م) أصبحت تنيس الهدف الأول للصليبين علي الساحل الشمالي لمصر وهدف رئيسي أيضًا لغارات وأعمال القرصنة للنورمانديين في صقلية كما حدث فى عام (571 ﻫ / 1175م ) و (573 ﻫ / 1177 م) لذلك انتدب السلطان الناصر صلاح الدين لعمارة قلعة تنيس وتجديد الآلات بها فقدّروا لعمارة سورها القديم علي أساساته الباقية مبلغ ثلاثة الآف دينار ثمن آجر وأصناف، وأنفق السلطان في رجال الشواني وجردهم للغزو إلّا أن كل ذلك لم يكن كافيًا.
فاحتدم الصراع بين المسلمين والصليبين مما جعل من مصر هدفًا خاصة بعد استيلاء المسلمين علي بيت المقدس في أواخر القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، فعقب صلح الرملة سنة (588 ﻫ / 1192م) أمر السلطان صلاح الدين بإخلاء تنيس ونقل سكانها إلي دمياط فأخليت في شهر صفر من الزراري والأثقال ولم يبق في المدينة سوي المقاتلة في قلعتها.
الّا أن تطرف تنيس جهة الشرق جعل صلاح الدين الأيوبي يخشي عليها الخطر الصليبي وقد صدق حدس صلاح الدين إذ تكررت غارات الصليبين البحرية علي شواطىء مصر وثغورها الشمالية، لذلك أمر الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر الأيوبي في سنة ( 624 ﻫ / 1227 م) بإخراج السكان منها ونقلهم إلى دمياط، كما أمر بهدم ما بقى من سورها وبيوتها خوفًا من سقوطها في أيدي الفرنجة فخربت أركانها الحصينة وعمائرها المكينة.
سكان تنيس
وتابع الآثارى طارق إبراهيم الحسيني عن سكان تنيس فقد قدّرها المؤرخون بأعداد مختلفة منذ الفتح الإسلامى حيث يذكر كلًا من الواقدي والمسعودي ومن بعدهما المقريزي في روايتهم عن الفتح الإسلامى للمدينة، أن جيشًا يبلغ قوامه 20 ألف رجل قد جاء من هذه الجزيرة وغيرها من جزر البحيرة لقتال جيش المسلمين الفاتحين.
كما تذكر المصادر المسيحية أن ما يزيد عن ثلاثين ألف مسيحي قاموا بالترحيب بوصول البطريرك دينوسيس Dionysius الذى جاء من أنطاكية لزيارة تنيس وكان ذلك في أواخر عام
200هـ / 815 م.
أما عن تحديد عدد السكان بالمدينة في عصرها الذهبي فنجد أن كل من ناصر خسرو وابن بسام والبكري والوطواط قد أسهم كل واحد منهم بطريقة أو أخري في تحديد عدد السكان فقد قدر البكري عدد القبط المسيحيون بأكثر من عشرة الآف نسمة من مجموع سكان المدينة.
أما ناصر خسرو فقد قدر عدد السكان بخمسين ألفًا في حين استعان ابن بسام في تحديد هذا الرقم- خمسين ألفًا- بما يستهلكه السكان من خبز في اليوم والسنة.، أما الوطواط حدد البالغين من سكان المدينة بنحو ثلاثة وثلاثون ألف نسمة، منهم تسعة الآف قبطي مسيحى مما يدفع برقم السكان الإجمالي لأكثر من خمسين ألفًا.
أما عن صفات وأخلاق سكان مدينة تنيس فهم أهل فن يستخفهم الطرب ويحبون سماع الأغـاني ويجيدون الرسم والتصوير والنقش والتلوين، وهم كأرباب الفنون في كل زمان ومكان يقبلون علي الحياة ويحسنون الاستمتاع بأطيبها ويألفون الغريب ويقبلون عليه بكل قلوبهم ويحبون السفر ويكرمون الغـريب والمسافر ولا يحملون في أنفسهم غلًا ولا حقدًا.
هكذا وصفهم ابن بسام فيقول " لذلك كثر طرب نفوس أهلها وفرحهم ورغبتهم في مداومة اللذات واستماع الأغاني ومواصلة المسرات والرغبة في الراحة واطرح ما يوجب التعب والمشقة وكثرة المبالغة لمن يألفون وحسن المؤازرة لمن يستخدمهم ومحبتهم للغربـاء والمسافرين والمواظبة علي مسرتهم وسرورهم ومنفعتهم وتركهم للحسد لمن يحبون.
الصور
1-صورة من كتاب غرائب الفنون وملح العيون والذي يرجع تاريخه للفترة ما بين 1020- 1050م، توضح الأسوار والبوابات الخاصة بالمدينة وكذلك المجاري المائية الرئيسية .عن مكتبة بودليان، جماعة أكسفورد .
2- صورة لتنيس كما رسمها الراهب الإيطالى نوى بيانكو.