اقرأ التفاصيل
recent
أخبار عاجلة

حكايات شم النسيم "الموروثات الشعبية وأصولها القديمة"

 حكايات شم النسيم

 "الموروثات الشعبية وأصولها القديمة"





كتب د. عبد الرحيم ريحان


يحتفلُ العالم بشم النسيم وأعياد الربيع وكما هو متعارف عليه إنَّ شم النسيم مرتبط بمصر القديمة حيث ربط المصري القديم فصل (شمو) بالأعياد والأفراح و الاحتفالات الخاصة بموسم الحصاد وكان لذلك الفصل أهمية كبيرة دينيًا واجتماعيًا واقتصاديًا في مصر القديمة , ولكن الجانب الأهم هو فلسفة المصري القديم وانعكاس تلك الفلسفة الروحية على الأعياد وتلك الفلسفة استمدها المصري القديم من تأمُلاته في الكون

وفى هذا الصدد تشير الباحثة فى الفولكلور والثقافة الشعبية زينب محمد عبد الرحيم إلى أن هذه التأمُلات كانت تأمُلات كونية فلكية, وهذا أمر منطقي جدًا فكيف للمصري القديم أن يعرف السنة والتقويم وتقسيم الفصول دون الاعتماد على نظام فلكي صارم وضع أسسه ونسج حوله تصورات عديدة عن خلق الكون.

أسطورة الخلق والبيضة الكونية

’’ليست الأسطورة مجرد حكاية خرافية ,بل هيّ منهج فكري استخدمه الإنسان القديم ليعبر عن نظرته للكون ,بدء الخليقة ,نظام الكون ,الصراع الآزلي بين الخير والشر ..إلخ ويطرح تساؤلاته عما يراه من تناقضات تشوب هذا التناغم الكوني الرائع الذي إبتدعه الإله الأعلى’’

وتنوه الباحثة زينب محمد عبد الرحيم إلى أن هذا يعطي فكرة عن طبيعة الأساطير المصرية القديمة ونظريات الخلق المتعددة, والتي من أبرزها نظرية (البيضة الكونية) وهي أحد رموز علم نشأة الكون في مصر القديمة فهذه النظرية خاصة بالآشمونيين (هرموبوليس) وكان أهم الآلهه (توت), (الثامون) – مخلوقات الهيولي الآزلية ثم كونوا معًا البيضة الآزلية, فنقرأ :





"في ظلام والدهم نون ,ولما كانت البيضة قد خُلقت قبل انبلاج النور ,فلم تكن مرئية وطائر النور قد خرج منها "

ونقرأ في كتاب الموتى تعويذة 58 : (انا الروح ,خُلقت من المياة الأزلية ,كان عشي خفيا وبيضتني سليمة) وذلك لأن البيضة تكونت في وقت سابق لعملية الخلق .

فقد نشأ هذا الكون من العدم وهو محيط الآزلي (نون) الذي يخلق الروح الأصيل ,صور الخليقة المستقبلية ثم تنبثقت منه البيضة الكونية ومنها كان مولد رع .

فقد رأى المصري القديم في البيضة رمزًا لقصة الخلق والنشأة الأولى وكان تجدد الحياة الزراعية في عيد شم النسيم هو تكرار لخروج النور الإلهي (رع) من البيضة الكونية

ولذلك كان البيض من أهم رموز الاحتفال بعيد الربيع .

وتتابع الباحثة زينب محمد عبد الرحيم إنَّ الراهب والعالم جورج لومِتر عَالم الفيزياء الفلكية المتوفىّ عام 1966 وضع نظريته عن الكون والانفجار العظيم فى جملة موجزة

(البيضة الكونية انفجرت عند لحظة الخلق) وهذه النظرية ببساطة تُثبت أنّ الكون في حالة تمدد وربما هذا المبدأ الكوني أوقع عالِم الفيزياء إينشتاين في خطأ فادح حيث أنه صاغ نظريته الكونية بناءً على إن الكون ثابت وفي حالة سكون وفشل في التنبؤ بتمدد الكون .

وتلك الإشارة سالفة الذِكر لتوضح إن نتائج العلوم الحديثة نسبيًا توصلت إلى تصورات المصري القديم التي يُفسرها الكثيرون على أنها مجرد أساطير, لكن الواقع يُثبت إنَّ قوة الفكر المصري القديم قاومت الزمن و مارست تـأثيرًا  أيضًا على العادات والمعتقدات الشعبية .

وهناك نماذج من بيض النعام وقد حُفظ في متحف النوبة بمصر ومن ضمن تلك النماذج بيضة حُفر عليها منظرًا للأهرامات الثلاث, والجدير بالملاحظة أيضًا أنَّ اسم إيزيس بالخط الهيروغليفي فيه رمز البيضة ربما لأنها تُعبر عن الحياة والأمومة ونجد في ترنيمة إخناتون :

أنت الذي يُنبت البيوضات في النساء وتجعل من الماء إناسًا

وتُكلم الكتكوت في بيضتهِ الذي يتكلم من قشرتهِ تُعطيه الهواء فيها لكي يعيش

وتُقدر لهُ الوقتَ ثم تَكسِرُ القشرةِ ليخرُج منها

ويخرُج مِنّ البيضةُ ويُنقنِق في وقتهِ.

ومن هذا الفكر نشأ الاهتمام بعنصر البيض داخل الاحتفال بشم النسيم وربطه أيضًا بأعياد الحصاد فكان المصري القديم يجمع بيض الطيور مثل الحصاد تمامًا ,والجدير بالذكر إنّ المصري لم يعرف الدجاج بل عرف الأوز (ميديوم) وعرف النعام وبيضه و كان هناك جدارية توضح طيور أبو قردان والفلاح المصري يجلس و البيض قد جُمع في السلال .

وعيد الحصاد ارتبط أيضًا بأوزيريس حيث اعتبره المصريون رمز الفيضان يتبعه موسم الزراعة, وأثناء موسم الحصاد يتم الاحتفال أيضًا بأوزيريس لأنه رمز الخير والنماء في عقيدة المصريين القدماء , وعندما نتأمل مناظر موائد القرابين أو بعض مناظر الخدم وحاملات القرابين سنجد  الخس والبصل الأخضر بكميات كبيرة ويشكل عنصر أساسي على مائدة المصري القديم وحتى اليوم يأكله المصريون بشكل دائم ويُعتبر الخس والبصل الأخضر من العناصر الرئيسية على مائدة المصريين في شم النسيم .

الأسماك على مائدة المصري قديمًا وحديثًا

وتشير الباحثة زينب محمد عبد الرحيم إلى أهمية الأسماك باعتبارها وجبة تنولها المصري القديم منذ أن عَرف النيل والزراعة ومشاهد صيد الأسماك على جدران  الكثير من المقابر في سقارة وأيضًا في الأقصر هناك العديد من المناظر المُعبرة عن صيد الأسماك, وقد عرف المصري القديم السمك المملح وقد توارثنا ذلك الصنف المتمثل في الرنجة والفسيخ, وبالطبع كُلما كانت المنطقة ساحلية كلما كان السمك من المصادر الغذائية الأساسية طوال العام وليس في شم النسيم فقط .

وقد صوّر المصري القديم الأسماك على الجدران وهناك جبانة مخصصة بها العديد من أنواع الأسماك المحنطة فنجد السمك البلطي , والبوري وأسماك الماكريل, وكان المصري يحد من الصيد الجائر للأسماك خاصةً بعد الفيضان وذلك حفاظًا على الثروة السمكية وحمايتها من خطر الأنحسار أو الانقراض الذي سيؤثر بشكل أساسي على مصدر غذاء هام للإنسان فكان المصري القديم يعلم جيدًا أهمية التوازن البيئي.

شم النسيم والأديان

ترتبط أعياد الربيع دائمًا بالأعياد المقدسة عند اليهودية والمسيحية , فيحتفل اليهود بعيد الفصح في 15 أبريل لمدة سبعة أيام ولديهم طقوسهم الخاصة في ذلك الاحنفال المتمثلة في ذبح (خروف الفصح) وتقديمه كقربان عن طريق نشر دمه ولا يأكلون الخميرة حيث يأكلون الخبز بدونها, وكل هذه التعاليم ذُكرت في سفر الخروج الاصحاح 12 وجاء هذا العيد لتحتفل جماعة بني إسرائيل بخروجها من أرض مصر .

أمَّ عن الديانة المسيحية فنجد إنها مرتبطة بعيد الفصح اليهودي وهناك أسبوع الالام قبل يوم الاحتفال ويرتبط ذلك بالعشاء الأخير وخيانة السيد المسيح فقد رُفع للأمجاد في عيد الفصح اليهودي المعروف باسم عيد القيامة, عيد الفصح اليهودي وعيد القيامة القبطي كلاهما يرتبطان بموسم الحصاد وفصل الربيع لذلك قد تتصادف الدورة الفلكية ويتم الاحتفال في مواعيد قرية من موعد عيد شم النسيم المتوارث من المصري القديم والذي يحتفل به كل أطياف الشعب بل والعديد من الثقافات فهو حقًا عيدًا عالميًا للطبيعة.

شم النسيم والاحتفالات الشعبية

وترصد الباحثة زينب محمد عبد الرحيم الاحتفالات الشعبية الخاصة بشم النسيم في وقتنا الحالي المتجسّدة في الزيارات والاحتفال يكون حول مائدة الفسيخ والرنجة والبصل, أو الذهاب إلى المنتزهات والحدائق العامة والمراكب النيلية .

ومن الموروثات الشعبية المرتبطة باحتفالات شم النسيم فى بورسعيد حرق دمية اللورد "اللنبي" المرتبطة بثورة 1919 والحركة الوطنية الشعبية في بورسعيد حيث تصنع دمية كبيرة الحجم وبعد الإنتهاء منها تُقام (زفة اللنبي) وتتحرك في جميع الشوارع ويجتمع الأطفال والرجال وتشاهد النساء هذه الزفة من الشرفات ويصاحب هذا الاحتفال الرقص والغناء على أنغام السمسمية والطبل والرق ويرددون هذه الأغنية :

ياللنبي يابن حلمبوحة

ومراتك عرة وشرشوحة

ياللنبي يابن حلمبوحة

مين قالك تتجوز توحة

ياللمبي يابن الخواجاية

مين قال لك تعمل حكاية

ياللنبي يابن الأمبوحة

أمك مليانة ملوحة

دي راسك عالحيط مدبوحة

إخية عليه

اللمبي بيه

وبعد ذلك يتم حرق الدمية في الشوارع في فجر يوم شم النسيم ثم يحضرون السامر ومائدة شم النسيم  حيث البيض الملون وفسيخ وخس ملانة وبصل أخضر والطماطم والفلفل والليمون ,وفي المساء يقومون بعمل نزهات واحتفالات على الفالوكة في البحر .

هذا كان عرض لنموذج من احتفال الجماعة الشعبية وربط النضال ضد الاستعمار بيوم شم النسيم وتجدد الحياة، فالجماعة الشعبية تمتلك وعي وإرادة عبقرية ولنجعل الربيع وشم النسيم بداية لتجدد طاقتنا الروحية والتمتع بميلاد الأزهار ولنحتفل مع الطبيعة بعيدها فنحن منها وهيّ الأم الحاضنة لكل الكائنات .


google-playkhamsatmostaqltradent