أين المنهجية العلمية للدفاع عن الحضارة المصرية؟
كتب د. عبد الرحيم ريحان
وما زالت أصداء فيلم كليوباترا مستمرة خاصة بعد تحدى نتفليكس وعرضها الفيلم فى موعده وكأن شيئًا لم يكن
وقامت مؤخرًا مجموعة تسمى "عدالة للخدمات القانونية" بإعداد خطاب موجه إلى اليونسكو يتضمن كل سلبيات فيلم كليوباترا لشبكة نتفليكس من خلال متخصصين فى الآثار والقانون استنادًا إلى مبادىء اليونسكو فى الحفاظ علي التنوع الثقافي والمساواة بين الثقافات ومخالفة الشركة المنتجة للفيلم للمعايير الدولية للإنتاج الوثائقى متهمين الشركة بالاعتداء على ثوابت التاريخ المصرى بتزوير شخصية الملكة كليوباترا السابعة ورفض الحقائق التى أوردها الفيلم استنادًا إلى تصريح الدكتور مصطفى وزيرى أمين عام المجلس الأعلى للآثار الجهة الرسمية المعنية بشئون الآثار فى مصر والذى أكد أن ظهور البطلة بهذه الهيئة يعد تزييفًا للتاريخ المصرى ومغالطة تاريخية صارخة لا سيما وأن الفيلم مصنّف كفيلم وثائقى وليس عمل درامى الأمر الذى يتعين على القائمين على صناعته ضرورة تحرى الدقة والاستناد إلى الحقائق التاريخية العلمية بما يضمن عدم تزييف تاريخ وحضارات الشعوب لصالح أشخاص أو جماعات أو جهات بعينها
ونؤكد أن عدم اتباع منهجية علمية فى الردود على الحملات الشرسة على الحضارة المصرية يؤدى إلى الفشل فى الدفاع عن قضايانا بالشكل العلمى الممنهج والمدروس
وأن ما يحدث حين تعرّض تاريخ وحضارة مصر لأى هجوم هو معالجة الموضوع بشكل متسرع ولجوء الإعلام إلى شخصيات شهيرة تدلى بمداخلات تيلفزيونية سريعة تتضمن عبارات لا تسمن ولا تغنى من جوع ولا تضع أسس علمية تدافع عن قضيتنا بالشكل المطلوب وهذا ناتج لاستعجال الإعلام للرد السريع وللأسف تأخذ المواقع المختلفة خارج مصر هذه الردود المتسرعة لتبنى عليها وكان من نتيجتها فى قضية كليوباترا هو التركيز على نفى اللون بأنه ليس اللون الأسود وهو فخ وضعه لنا منتجى الفيلم أنفسهم لأنهم يعلموا أن التركيز على اللون يدخلنا فى إطار العنصرية مما يؤدى لخسران قضيتنا بالكامل وليس هذا فقط بل يضر بالبعد الأفريقى لمصر
ونؤكد أن اللون ليست قضيتنا بل الهوية والشخصية المصرية بالأساس وهو ما قصده الفيلم بالفعل من الطعن فى ثوابت الهوية والشخصية والأصول المصرية وهو ما يجب أن نركز عليه وهذا ما اتضح فى رد وزارة السياحة والآثار عندما ذكرت مدير عام مركز البحوث وصيانة الآثار بالمجلس الأعلى للآثار الأسبق سامية الميرغني أن جميع النقوش والتماثيل التي خلفها لنا قدماء المصريين على المعابد والمقابر صورت المصريين بملامح أقرب ما يكون بالمصريين المعاصرين، من حيث لون العين والشعر والبشرة ودرجة نعومة وكثافة الشعر لدي الرجال والنساء، وحتى لون الجلد ووجود نسبة من العيون الملونة
تتميز الهوية المصرية بالتنوع والاندماج بين الحضارات المختلفة، واندمجت وتمصّرت كل الحضارات التى عاشت على أرض مصر لتشكّل لوحة فنية تشكيلية جديدة تبهر العالم، فمنهم من وقع فى عشق الحضارة المصرية بما يسمى بالولع بالحضارة المصرية وهم من تشرف بهم أرض مصر وترحب بهم ضيوفًا عليها فى كل أيام السنة، ومنهم من أعماه الحقد التاريخى فنسب الحضارة إلى نفسه وزور التاريخ والحقائق العلمية والأثرية بما يملكه من تقنيات حديثة وإعلام له تأثيره الدولى
وأن التتابع الحضارى على أرض مصر منذ عصور ما قبل التاريخ مرورًا بعصر مصر القديمة والعصر اليونانى والرومانى ثم المسيحية ودخول الإسلام إلى العصر الحديث والمعاصر ترك أثرًا لا يمكن محوه بسهولة بعد كل مرحلة، سواءً استمر لفترة أو امتد لعدة قرون، فتأثرت وأثرت وانصهرت كل الحضارات لتصبح مصرية خالصة، وازدهرت الحضارات والصناعات واللغات والأديان
وفى خضم كل هذه التغيرات حافظ المصرى على هويته وتمسك بإرثه الحضارى الذى يتجسّد حتى الآن فى اللهجة والثقافة والعادات والتقاليد والموروثات الشعبية فالأسس التي وضعتها الحضارات القديمة لا تزال حاضرة في المجتمع المصري وهذا يعكس الروح القوية والمتينة التي تميز هذا الشعب على مدى قرون طويلة.
وقد جسّد البعد الأفريقى فى تاريخ مصر جمال حمدان وقد تمثّل فى رحلات قدماء المصريين إلى بلاد بنت وهى فى رأى الكثير من الباحثين تشمل المناطق الأفريقية والآسيوية المحيطة بباب المندب وعلى محور الصحراء الكبرى وجدت أدلة على المؤثرات الحضارية المادية والثقافية بين بعض قبائل نيجيريا وغرب أفريقيا وبين القبائل النيلوتية فى أعالى النيل وفى محور شمال أفريقيا دخلت مصر مع الليبيين فى احتكاك بعيد المدى وامتد النفوذ السياسى المصرى إلى برقة أيام البطالسة، وكانت مصر بوابة التعريب بالنسبة للمغرب العربى كله وتواترت العلاقات المتبادلة فى العصور الوسطى والذى ساهم فى ازدهارها طريق الحج إلى مكة المكرمة، كما ساهمت مصر فى قضايا إفريقيا على طول تاريخها وهناك أسماء ميادين وشوارع حتى الآن باسم جمال عبد الناصر فى بلدان أفريقيا
وحتى الفيلم الذى تم عمله للرد على فيلم كليوباترا واشترك فيه شخصيات كبيرة لها وزنها من مصر تضمن مغالطة تاريخية كبرى وهى وضع خارطة عليها أسماء بلدان لم تكن موجودة أيام كليوباترا مثل الأردن وإسرائيل بمبدأ دس السم فى العسل مما يدل على أن النية مبيتة لتزوير التاريخ والقضية أكبر مما نتخيل وأن الهجمة شرسة مستمرة ولن تتوقف على الحضارة المصرية
ومن هذا المنطلق أطالب بمنهجية علمية فى التعامل مع أى هجوم على الحضارة المصرية وهو ما وضعت مبادئه حملة الدفاع عن الحضارة المصرية برئاسة الدكتور عبد الرحيم ريحان فى الرد العلمى الممنهج والتأنى فى الرد والبعد عن الردود السريعة فى مداخلات تيلفزيونية تصبح حجة علينا وتضر بقضيتنا وأن تكون الردود دراسة تحليلية علمية متأنية تخدم قضيتنا وليست سبوبة إعلامية ليتحدث فيها المتخصص وغير المتخصص ممن يمنحون أنفسهم ألقابًا غير حقيقية