سرب الهكسوس : الغزو والتأثير والاندماج في تاريخ مصر
سرب الهكسوس : الغزو والتأثير والاندماج في تاريخ مصر
كتبت - دكتورة ميرنا القاضي
باحثه في علم المصريات والشرق الأدنى
هل سمعت يوماً عن الهكسوس؟
ربما تعرفهم كشعب غزا مصر في العصور القديمة وحكمها بالقوة والظلم. لكن هل تعلم أن هذه الصورة قد تكون مغلوطة
أو ناقصة؟
هل تعلم أن الهكسوس ليسوا شعباً واحداً
بل مجموعة من الشعوب المختلفة التي جاءت من غرب آسيا؟
هل تعلم أن الهكسوس لم يكونوا مجرد غزاة، بل كانوا أيضاً حاملين لثقافة وتكنولوجيا؟
في هذا المقال، سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، بالاستناد إلى المصادر التاريخية والأثرية المتوفرة.
حيث سنستعرض معك بعض جوانب حياتهم وتاريخهم وإرثهم في مصر.
سنبدأ بالحديث عن أصلهم ودخولهم إلى مصر، ثم سنتطرق إلى حكمهم وصراعاتهم مع المصريين، وأخيراً سنذكر خروجهم من مصر وآثارهم على التاريخ.
دخول الهكسوس إلى مصر
لا يمكن اعتبار دخول الهكسوس إلى مصر كغزو عسكري مفاجئ، بل كان نتيجة لعملية تدفق تدريجية لجماعات منهم إلى مصر منذ منتصف عصر المملكة الوسطى حيث كانت مصر تشهد فترات من الضعف والانقسام. وقد استغل الهكسوس هذه الفرصة للاستقرار في شرق الدلتا، حيث أسسوا مدينة أوريس
(التي تقابل تل الضبعة الحالي)
كعاصمة لهم. ومن هناك بدأوا في توسيع نفوذهم وسيطرتهم على معظم مصر السفلى، وخاضوا صراعات مع حكام الأسرة الرابعة عشرة في غرب الدلتا والأسرة السادسة عشرة في أبيدوس والأسرة السابعة عشرة في طيبة.
وفي عام 1674 قبل الميلاد تقريباً، أعلنوا عن تأسيس الأسرة الخامسة عشرة وانتهزوا فترة الفوضى التي كانت تعيشها مصر في الفترة الانتقالية الثانية.
الاسم “الهكسوس” هو تحريف يوناني للعبارة المصرية “حقا خاسوت” والتي تعني “حكام الأراضي الأجنبية”.
وقد استخدم هذا المصطلح لوصف مجموعة من الشعوب التي جاءت
من مناطق مختلفة في غرب آسيا، وخاصة من سوريا وفلسطين وشمال شبه الجزيرة العربية. ولا يوجد اتفاق بين العلماء على هوية هؤلاء الشعوب، فبعضهم يرى أنهم كانوا من أصول سامية، وآخرون يرى أنهم كانوا من أصول حورية أو هندية-أوروبية
أو خليط من كل ذلك. وقد تشابهت لغاتهم ودياناتهم وثقافاتهم مع شعوب بلاد الشام
التي كانت تتأثر بالحضارات المجاورة مثل المصرية والبابلية والحثية .
الهكسوس: تاريخ مجهول وإرث مدهش
حكم الهكسوس مصر حوالي مائة عام وخلال هذه المدة، حاولوا أن يظهروا أنفسهم كحكام شرعيين للبلاد، واتبعوا بعض المظاهر والممارسات المصرية، مثل ارتداء التاج الملكي، واتخاذ اسماء هورسية. كان لدى الهكسوس ثقافة ودين خاص بهم، ولكنهم أيضاً تأثروا بالثقافة والدين المصريين، ولكنهم لم يتحدثوا اللغة المصرية واستخدموا لغاتهم الاسيويه في التواصل.
الهكسوس كانوا شعباً متنوعاً من حيث الأصول والعادات، ولكنهم كانوا يشتركون في بعض المعتقدات الدينية، مثل عبادة إله العاصفة والصحراء سيت، الذي ارتبطوا به بإله سوري يسمى بعل وإلهة الحب والحرب عناة ، وإله الشمس رع. كما كانوا يحترمون آلهة مصر، مثل أوزوريس وإيزيس وحورس، ويبنون لهم معابد وتماثيل.
وقد أدخل الهكسوس إلى مصر بعض التغييرات في المجالات الثقافية والتقنية والزراعية، فقد جلبوا معهم بعض الآلات الموسيقية وبعض الأشعار والحكايات
مثل حكاية سينوحي.والكلمات الأجنبية وطوروا صناعة البرونز والفخار، وزرعوا بعض المحاصيل الجديدة، مثل التين والزيتون والعنب، والتي زادت من تنوع الغذاء المصري .
كما قدموا إلى مصر بعض التكنولوجيا الحربية التي كانت تستخدمها شعوب غرب آسيا، مثل المقلاع والفأس والقوس المركب والخيل والمركبات المجنزرة.
هذه الأسلحة زادت من قوة الجيش المصري، ومكنته من تحقيق انتصارات عسكرية كبيرة في العصر الجديد
ملوك الهكسوس
الصراع والتحالف بين الهكسوس والمصريين
بعضاً من أشهر ملوك الهكسوس الذين حكموا مصر في عصر الأسرة الخامسة عشرة، والتي تعتبر أقوى وأهم أسرة هكسوسية :
ساليتيس (أو ششي )
الذي يعتبر مؤسس الأسرة الخامسة عشرة، وخيان (أو خيان أبير )
الذي حكم لفترة طويلة وأقام علاقات تجارية مع شعوب أخرى
وأبوفيس (أو أبير )
الذي دخل في صراع مع الملك سقنن رع تاو من طيبه
و هناك أيضاً ملوك آخرون من الأسرة السادسة عشرة، التي كانت تحالفاً من حكام محليين في أبيدوس والنوبة والصعيد، والتي قاومت الهكسوس لفترة من الزمن. بين هؤلاء الملوك:
أنات هير (أو ياناسي)
الذي كان حاكماً لأبيدوس
والذي تحالف مع الملك سقنن رع تاو من طيبة ضد الهكسوس، وأرسل له قطعة خشبية تحمل رسالة تطلب منه إرسال قوس مركب لمحاربة الهكسوس .
إبخير نفتي (أو سمقن)
الذي كان حاكماً لأبيدوس أيضاً
والذي ادعى أنه من سلالة الملك أحمحت الثالث من الأسرة الثانية عشرة
وأنه يحمل لقب “الملك المصري” .
ديدموتف (أو دوديمون)
الذي كان حاكماً لأبيدوس بعد إبخير نفتي
والذي ادعى أنه من سلالة الملك سنوسرت الثالث من الأسرة الثانية عشرة
وأنه يحمل لقب “الملك المصري”
أيضاً
إبرام (أو إبرام رع)
الذي كان حاكماً للصعيد والذي ادعى أنه من سلالة الملك أحمحت الثاني من الأسرة الثانية عشرة، وأنه يحمل لقب
“الملك المصري”
كذلك قار (أو قار رع)
الذي كان حاكماً للصعيد بعد إبرام
والذي ادعى أنه من سلالة الملك سنوسرت الثاني من الأسرة الثانية عشرة
وأنه يحمل لقب “الملك المصري”
أيضاً
إذًا، نستطيع أن نقول إن ملوك الهكسوس كانوا متنوعين في أصولهم وطموحاتهم وأن بعضهم كان يحارب ضد بعض وبعضهم كان يتحالف مع المصريين ضد آخرين. وقد شهد عصرهم تغيرات كبيرة في التاريخ والثقافة المصرية.
خروج الهكسوس
ليس هناك اتفاق بين المؤرخين حول كيفية دخول الهكسوس إلى مصر، وإن كانوا غزاة أو مهاجرين تدريجيين ومع ذلك، فإنهم يتفقون على أن الهكسوس خرجوا من مصر نتيجة المقاومة والثورات من قبل المصريين، خصوصًا في مصر العليا
حيث كانت طيبة تحافظ على استقلالها تحت حكم الأسرة السابعة عشرة
وفي نهاية المطاف شن الملك سقنن رع تاو وابنه كاموس وابن أخيه أحمس الأول، الذي أطاح بهم وأنشأ الأسرة الثامنة عشرة والعصر الجديد لمصر.
وفقًا للمؤرخ الروماني يوسيفوس
فإن أحمس قام بحصار مدينة أوريس لمدة ست سنوات، وقتل جميع سكانها.
ثم تابع باقي الهكسوس إلى شبرخت (الشارقة) في فلسطين وهزمهم هناك.
ولكن يوجد ايضا قصة مختلفة
فإن أحمس عقد معاهدة مع الهكسوس بموجبها كان عليهم مغادرة مصر والذهاب إلى أي مكان يشاؤون دون تعرض للإزعاج.
وبهذه الشروط خرج نحو 240 ألف شخص من الهكسوس من مصر بأغراضهم وأُسْرِهِم، وعبروا الصحراء إلى سوريا.
هذه المعلومات التي ذكرتها عن أحمس والهكسوس هي مأخوذة من كتاب يوسيفوس الروماني الذي يسمى
“ضد أبيون” وهو يعتمد على مصادر مصرية قديمة مثل مانيتون وشاشنق ولكن هذه المصادر ليست موجودة الآن وقد تكون بها بعض الأخطاء
أو التحريفات .
لذلك لا يمكننا الجزم بأن هذه المعلومات هي الحقيقة الوحيدة عن أحمس والهكسوس. فهناك مصادر أخرى تروي قصصًا مختلفة عن نهاية حكم الهكسوس في مصر. مثلاً، هناك نقوش ملكية تصف أعمال أحمس الحربية ضد الهكسوس في شمال مصر وفلسطين، وتظهر أنه قام بطردهم من مصر بالقوة، وليس بالمعاهدة كما هناك شهادات من جنود أحمس كأحمس بن إبانا وأحمس بن نخبت، يرويان في مقابرهما تفاصيل المعارك التي شاركوا فيها ضد الهكسوس .
إذًا يبدو أن هناك تناقض بين المصادر الرومانية والمصادر المصرية عن أحمس والهكسوس. وقد يكون ذلك بسبب اختلاف وجهات النظر أو الغايات التي كتبت من أجلها. ولعل الحقيقة تكون في مكان ما بين هذه المصادر، أو ربما تظهر لنا مصادر جديدة في المستقبل توضح لنا المزيد عن هذه الفترة التاريخية.
لكن ما نعلمه هو أن نهاية حكم الهكسوس فتحت طريقًا جديدًا لإحياء حضارة مصرية اقوي.
السلبيات والايجابيات في حكم الهكسوس على مصر
أثر حكم الهكسوس على مصر بشكل سلبي وإيجابي. من ناحية سلبية، فقد تسبب في تقسيم مصر إلى قطاعين:
شمالي يخضع للهكسوس، وجنوبي يخضع لأسرة مصرية مستقلة
كان لهم تأثير سلبي على بعض الآثار المصرية، التي دمروها أو أهملوها
أو استخدموها لأغراض أخرى
من بين الآثار المصرية التي تضررت من الهكسوس :
معبد رع في هليوبوليس الذي كان مركزًا دينيًا وفلكيًا هامًا في مصر القديمة.
تم تدمير المعبد وسرقة تماثيله وأعمدته وأحجاره من قبل الهكسوس، واستخدم بعضها لبناء عاصمتهم أوريس
مقبرة أحمحت الأول في طيبة، التي كانت عاصمة مصر الجنوبية خلال حكم الهكسوس. تم نهب المقبرة وإحراقها من قبل الهكسوس، وتشويه تماثيل الملك وزوجته.
معابد وآثار أخرى في منطقة طيبة، مثل معبد منتو في أرمانت، ومعبد خنوم في إسنا، والتي تعرضت للإهانة والإتلاف من قبل الهكسوس.
ولكن ليس كل الآثار المصرية تضررت من الهكسوس. بل إن بعضها استفاد من التجارة والتبادل الثقافي بين مصر وآسيا.
مثلاً:
مقبرة خنومحتب الثاني في بني حسن
التي تحتوي على رسومات جدارية تصور حياة المصريين في عصر القدماء المتوسط. تظهر إحدى هذه الرسومات رجلاً يُدعى أبشا يحمل لقب “الهكسوس” وهو يقود مجموعة من الأشخاص ذوي الملابس الملونة إلى مصر لإجراء التجارة.
هذا يدل على أن هناك علاقات سلمية بين بعض المصريين والهكسوس
مقبرة سحور في سقارة، التي كانت مقبرة خاصة لأحد كبار المسؤولين في عصر الأسرة الثانية عشرة. تحتوي المقبرة على نصب جنائزية تحمل نقوشًا باللغات المصرية والآشورية والبابلية والحورية والتي تشير إلى أن صاحب المقبرة كان يتعامل مع سفراء وتجار من هذه الشعوب.
هذا يدل على أن هناك اتصالات ثقافية بين مصر وآسيا قبل حكم الهكسوس
من الناحية الاقتصادية، أثر الهكسوس على مصر بشكل إيجابي. فقد زادوا من التجارة والتبادل الثقافي بين مصر وآسيا كما جلبوا معهم معرفة بالمعادن والفنون هذه التطورات زادت من التنمية الاقتصادية والحضارية لمصر في العصر الجديد.
من ناحية إيجابية، فقد ألهم المصريين للثورة ضد الغزاة، وإعادة توحيد مصر تحت حكم أحمس الأول، مؤسس الأسرة الثامنة عشرة كما دفع المصريين لتبني سياسة استعمارية، وتوسيع حدودهم إلى سوريا والنوبة.
الأدلة التاريخية المتاحة عن الهكسوس تشمل :
- المصادر المصرية القديمة، مثل قائمة ملوك تورين، التي تذكر أسماء ملوك الهكسوس وفترات حكمهم، والنقوش والرسوم على الجدران، التي تصور بعض المعارك والحملات بين الهكسوس والمصريين
- المصادر الأجنبية، مثل كتابات المؤرخين اليونانيين والرومانيين، مثل هيرودوت ومانيثو وجوزيفوس، الذين نقلوا بعض التقارير والأساطير عن الهكسوس من مصادر مصرية أو كنعانية.
- الأدلة الأثرية، مثل الحفائر والتنقيبات في مناطق حكم الهكسوس، مثل تل الضبعه وأفاريس وتانيس، التي كشفت عن بقايا مباني وآثار وفخار وأدوات وأسلحة ومجوهرات تحمل طابعًا آسيويًا.
- الأدلة اللغوية والدينية، مثل دراسة أسماء ملوك الهكسوس وآلهتهم وشعائرهم
التي تظهر تأثيرات سامية وحورية وهندية-أوربية على ثقافة الهكسوس .
كيف تغيرت صورتهم في التاريخ المصري؟
كيف تعامل المصريون مع ذكرى الهكسوس في مختلف العصور
صورة الهكسوس في التاريخ المصري تغيرت بمرور الزمن، ففي عهد الأسرات الحديثة (حوالي 1550-1069 ق.م)
كانوا يعتبرون رمزًا للغزو والظلم، وكان الملوك المصريون يحتفلون بطردهم من مصر كانتصار عظيم . في عهد الأسرات المتأخرة (حوالي 664-332 ق.م)
بدأت صورة الهكسوس تتحسن نسبيًا
فقد اعتبرهم بعض المؤرخين المصريين كجزء من تاريخ مصر، وليس كغزاة أجانب في عهد البطالمة (حوالي 305-30 ق.م) كان هناك اهتمام متزايد بالهكسوس من قبل المؤرخين الإغريق، مثل مانيثون وفلافيوس يوسفوس، الذين حاولوا تفسير أصولهم ودورهم في التاريخ المصري في العصور اللاحقة، اختفى اسم الهكسوس من الذاكرة التاريخية، حتى أعاد اكتشافه علماء الآثار في القرن التاسع عشر .