اقرأ التفاصيل
recent
أخبار عاجلة

عبد الحفيظ دياب .. نبتة طيبة في أحضان الشجرة المباركة

 عبد الحفيظ دياب .. نبتة طيبة في أحضان الشجرة المباركة




كتب د. عبد الرحيم ريحان


حين أكتب عن هذه الشخصية فيمكننى أن أبدأ ولكن من الصعب أن أنتهى، فإذا فرغ مداد القلم الأول نحتاج إلى الثانى، وهكذا حتى نكون قد وفينا بجزء يسير من أفضال هذه الرجل.



اخترت له تعبير نبتة طيبة فى أحضان الشجرة المباركة باعتباره المؤسس وصاحب الفضل الأول فى إنشاء منطقة آثار سيناء للآثار الإسلامية والقبطية، وهو النبتة الطيبة التى نمت لتروى بمياه مباركة فى الوادى المقدس، وفى أحضان شجرة العليقة الملتهبة، فهو صاحب الفضل الأول بل وبدونه ما سجل دير سانت كاترين فى عداد الآثار، وما سجلت الأرض المقدسة حوله تراث عالمى استثنائى باليونسكو عام 2002، وهى الأرض الذى ناجى عندها نبى الله موسى ربه ثلاث مرات وتلقى من على الجبل ألواح الشريعة وتجلى الجبل أمامه حين طلب رؤية المولى عز وجل.



الأستاذ عبد الحفيظ دياب مدير آثار سيناء شمالها وجنوبها ثم مديرًا عام لآثار جنوب سيناء ثم مديرًا عام لآثار الوجه البحرى وسيناء.



هو الرجل العسكرى الذي قضى فترة كبيرة فى القوات المسلحة ضابطًا، وقد طبّق العلوم العسكرية فى الحياة المدنية بشقيها الإدارى والإنسانى، ولم يكن مديرًا علينا بل كان زميلًا وصديقًا وأخًا أكبر، كان يتحدث عنا بصفة الزملاء وبتعبير أدق "العساكر" باعتبارنا على أرض ارتوت بدماء الشهداء



وكنا من الرعيل الأول بها فدائيين نواجه كل صعابها، نكمل مسيرة العسكريين الذى فقدوا أجزاء من أجسادهم سبقتهم إلى الجنة، ومنهم من يعيش بيننا الآن من أبطال أكتوبر ونحن فى ذكراها الخمسون

ونكمل مسيرة الدبلوماسية المصرية فى أروع صورها التى جاهدت حتى يعود لنا آخر شبر فى سيناء طابا المصرية.



وكنا جيل الآثاريين، الأمناء على هذه الأرض، ألقيت علينا مسئولية إعادة كتابة تاريخها من جديد من خلال الحقائق العلمية التى تكشف عنها أعمال الحفائر لتفند أكاذيب وافتراءات أثناء احتلال سيناء من خلال حفائر غير شرعية في أرض احتلت بقوة السلاح، واستباح المحتل لنفسه نهب ثرواتها وتزوير تاريخها

 وتحملنا المسئولية برجولة وقبلناها برضا مهما واجهنا من أخطار طبيعية مثل إقامتنا أثناء الحفائر بين الثعابين والطريشة وكل الزواحف الضارة، ولكن ما زرعه بداخلنا الأستاذ عبد الحفيظ دياب بأننا جنود فى ميدان معركة كبرى،  أشعرنا بالطمأنينة أن الموت على هذه الأرض شهادة، والنجاح فى إعادة كتابة تاريخها الحقيقى شهادة من العالم بأسره بأننا كنا وقائدنا عبد الحفيظ دياب على قدر المسئولية.



بدأتى قصتى بسيناء بعد أن حصلت على ليسانس الآثار من جامعة القاهرة وانهيت الخدمة العسكرية قدوة حسنة، وتعاقدت أنا وزملائى لأستاذ خالد عليان والأستاذ جمال سليمان للعمل بهئة الآثار المصرية فى ذلك الوقت، وكان على رأسها الرجل العظيم الدكتور أحمد قدرى صاحب البصمة الكبيرة فى ترميم الآثار، خاصة الآثار الإسلامية والمسيحية والتى كانت بعيدة عن دائرة الاهتمام، وهو أيضًا ابن المؤسسة العسكرية وأحد الضباط الأحرار



وبعد حصولى على الموافقة كنت أتولى مسئولية اختيار المحافظة التى نوزع إليها للعمل، ولأن الأقدار هى التى ترسم لنا أحلامنا ساقتنى أقدارى إلى سيناء دون أن أدرى، ونصحنى أحد العاملين المخلصين بالهيئة بالدور الرابع حيث مكتب الدكتور فهمى عبد العليم رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية، فقال لى إلى أين؟ قلت: إلى مكتب رئيس القطاع ليوزعنا للعمل بالقاهرة، قال لى: لو رغبتك العمل بالقاهرة لا تقل لرئيس القطاع ذلك هيفتكرك مش عايز تشتغل وعايز تقعد جنب بيتك، قل له أى محافظة أخرى هيحيبك القاهرة.



ودخلت للدكتور فهمى رحمة الله عليه وسألنى أين أريد العمل وبشكل عفوى قلت له سيناء، وبالطبع لا أريد ذلك، فنهض الدكتور فهمى من على مقعده فى ذهول مصحوبًا بإعجاب شديد، وقال: هيا دى الرجالة اللى أنا مستنيهم من زمان، أنا مش لاقى ولا واحد يقبل يروح سيناء، فقلت له: لأ أنا مش قصدى أنا عايز اشتغل فى القاهرة، وبالطبع ثبتت فى عقله سيناء ولم يسمع بعدها أى شىء، وكان بمكتبه الأستاذ عبد الحفيظ دياب بالصدفة وطمأننى بابتسامته المعهودة فوافقت فورًا ليس من أجل سيناء فأنا لا أعرف عنها شيئَا ولم أدرس عنها شيئًا ولكن فقط من أجل العمل مع هذا الرجل، وهكذا اختارت الأقدار لى لأن أعمل مع أعظم شخصية فى مجال العمل الأثري.



قبلنا العمل مع هذا الرجل بعقد 60 جنيه فى الشهر أى 2 جنيه فى اليوم وكان الذهاب لسيناء يكلفنا 40 جنيه ذهاب وعودة وقبلنا من أجل العمل مع هذا الرجل



وبدأت رحلة الكفاح وذهبنا إلى طابا وكانت هناك استراحة كبرى لتفتيش الآثار تسمى "البيت الأزرق" فهى استراحة من الخشب تحتل أفضل بقعة فى منطقة جزيرة فرعون بطابا أمام قلعة صلاح الدين، أخذها المرحوم الدكتور قدرى بقوة شخصيته ووضع عليها البيت الأزرق واستمرت استراحة للآثار كانت ملتقى كل الجهات العسكرية والمدنية هناك لمشاهدة التيلفزيون 24 بوصة والجلوس أمام خليج العقبة.



وفى اليوم الأول لوصولنا إلى البيت الأزرق أنا وزميلى الأستاذ خالد عليان، قابلنا الزميل المتواجد منذ شهور ينتظر أحد مفتشى الآثار الجدد ليحصل على أجازة لزيارة أهله، وكانت حقيبته جاهزة بمجرد معرفته بقدومنا، فسلم علينا وأشار لنا إلى قلعة صلاح الدين أمامنا بأنها موقع عملنا وغادر إلى بلدته بصعيد مصر دون معرفتنا بطبيعة العمل والعاملين بالتفتيش، وفي صباح اليوم التالى حضر لنا أحد جنود المسطحات المائية فى المنطقة وكانوا يقومون بتوصيل العاملين بالآثار إلى القلعة عبر زودياك خاص بهم وقال: "عايزين حد من مفتشين الآثار يشرح للملك حسين وجورج بوش" فقلنا له الملك حسين مين وجورج بوش مين وجايين ليه واحنا مالنا

سابنا ومشى، ثم ارتدينا أفضل ما نحمله من ثياب فى حقائبنا واتجهنا لنرى ما الأمر فوجدنا أحد ضباط أمن الدولة يمنعنا من العبور بالزودياك إلى جزيرة فرعون قائلًا خلاص هما مش محتاجين شرح، وأمام إصرارنا بأن هذا عملنا ولازم نروح نشرح رغم إننا مش عارفين هنشرح إيه ، فسمح لنا بعد أخذ تحقيق الشخصية، وجاء لمرافقتنا وعرفنا على الضيوف فرحبنا بجلالة الملك حسين رحمة الله عليه ملك الأردن السابق، وجورج بوش الأب وكان نائبًا لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية وبدأنا بالشرح من خلال ما درسناه عن العمارة الحربية وتمت الزيارة بحمد الله ووجهوا لنا الشكر.



وفى اليوم الثانى جاء لنا ضابط أمن الدولة وقد أصبحنا أصدقاء وتعددت خدماته لنا بعد ذلك حاملًا لنا صور الزيارة، والذى شاهدها رئيس القطاع بعد نزولنا للقاهرة وأعجب بموقفنا وأصبح لديه قناعة بعد ذلك بأن كل رجال سيناء على درجة عالية من الكفاءة وقام بزيادة عقدنا فى العام التالى إلى 90 جنيه.



وانطلقنا فى خطة أعمال حفائر بتمويل من ميزانية تنمية سيناء فى طابا ونويبع ودهب وطور سيناء وسانت كاترين وبخطة منظمة وضعها القائد عبد الحفيظ دياب وكان لى شرف النشر العلمى لنتائج هذه الحفائر بكتاب المؤتمر والدوريات العلمية للاتحاد العام للآثاريين العرب وشاركت بها فى العديد من المؤتمرات العلمية الدولية داخل مصر وخارجها والتى فندت كل أكاذيب المحتل وأكدت مصرية سيناء بآثارها العظيمة، ورافقنا بعثات علمية يابانية وألمانية بطور سيناء ووادى فيران تعلمنا منهم الكثير، فكانت سيناء مدرسة علمية ميدانية لنا.



وسنعدد مواقف بسيطة تجلت فيها شجاعة القائد المحترم  عبد الحفيظ دياب حيث كان لنا مقرًا واحدًا لتفتيش آثار سيناء فى طابا فأصبح لنا مقرات فى نويبع وطور سيناء ورأس سدر، وحجرة داخل دير سانت كاترين، والآن هناك مقر بالمدينة ينتظر التأثيث، وأثثنا هذه المقرات بالجهود الذاتية وكان القائد يدفع من مرتبه البسيط

وننتقل إلى مواقف من بطولات قائدنا عبد الحفيظ دياب.



1- كان يرى كثير من السياح يزوون قلعة صلاح الدين بحزيرة فرعون من مصر ومن العقبة دون حصول هيئة الآثار على رسوم فأخذ قرارًا بنفسه بضرورة تحصيل رسوم

وأغلقت القلعة أمنيًا فى حرب الخليج، ورفضت كل قيادات المجلس الأعلى للآثار اتخاذ قرار فتحها مرة أخرى رغم نهاية الأزمة ولحرصه على أموال الدولة كأمين عليها اتخذ قرارًا جريئًا بنفسه وفتحها للزيارة مرة أخرى قائلًا لنا " يلا يا عسكرى منك له على القلعة افتحوها وأنا المسئول" ولولا هذا القرار لظلت القلعة سنوات مغلقة ولضاعت الملايين من أموال الدولة.



2- كان بجانبى مؤازرًا لى فى موقف تاريخى لن أنساه، فقد تحملت مسئولية تسجيل التل الأثرى بدهب "تل المشربة" ولم أعبأ بالتهديدات بالقتل من أهل المنطقة لو تم تسجيل هذا التل حيث يدعى البعض ملكيتهم له وكان ثمن الأرض أثناء مراحل تسجيلى له بين عامى 2007- 2008 عشرون مليون جنيه وفشلت محاولات التهديد، وانتقلت إلى الإغراء بمليون جنيه لإثنائى عن تسجيل التل والتى سيصبح ملكًا للآثار بعد التسجيل ورفضت أن أبيع شرفى وعرضى، نعم فالآثار هى شرفنا وعرضنا، وتم لى ما أردت وسجلت التل بالقرار رقم 820 لسنة 2008، من فرط سعادتى قمت بنشر خبر التسجيل كتصريح لى فى أكبر جرائد فى مصر الأهرام والأخبار والجمهورية.



وبالصدفة كان رئيس القطاع فى ذلك الوقت الأستاذ عبد الله العطار رحمة الله عليه عائدًا من مأمورية باليونان مع قائدنا الأستاذ عبد الحفيظ دياب وفتح الجرائد المصرية فوجد إسمى فى الثلاث جرائد فقال لقائدنا مازحًا "الواد ده انتهز فرصة سفرك واستقل بالمنطقة، هاتهولى بكره المكتب متعلق من رجليه" فرد عليه قائدنا بأننى من المخلصين فى عملهم وحكى له كيف تم تسجيل التل وكيف واجهت التهديد والإغراءات فتغاضى عن معاقبتى والتى ربما كانت تصل إلى الفصل من الخدمة.


3- دخل قائدنا بأسلوبه المحترم قلوب رهبان دير سانت كاترين خاصة مطران الدير أطال الله فى عمره المطران داميانوس مما سهّل تسجيل الدير كأثر وأقنعهم بضرورة تسجيل المنطقة تراث عالمى باليونسكو وكانت كل المقابلات والاجتماعات بخصوص الموضوع تتم على يديه حتى تم التسجيل فهو صاحب الفضل الأول فى ذلك

4- حدثت بعض المشاكل لمفتشى الآثار بالمنطقة نتيجة وشايات حاقدة على المنطقة وقائدها العظيم فذهب إلى مبنى المجلس الأعلى للآثار بالعباسية وقال بصوت عالى أمام الأمن "أنا أصغر مفتش عندى بمية أمين عام"


5- علمنا قائدنا الجرأة فى اتخاذ القرار والبعد عن اليد المهزوزة التى تتسب فى ضياع الكثير من الآثار، وحين نستشيره فى أمر ماذا نفعل؟ يرد ولماذا أنت فى هذا المكان أفعل ما تراه صالحًا وأنا موافق عليه.


6- كانت تأتينا القنوات التيلفزيونية فى طابا للحديث عن آثار سيناء وكانت لدينا الجرأة الكاملة للحديث، فكيف يأتينى إعلامى فى طابا للحديث وأقول له تحدث مع من بالقاهرة، من هو الجدير بالحديث ابن المنطقة التى ولدت المعلومات على يديه أم من تصل إليه المعلومة مكتوبة ليرددها، لدرجة أن أحد الزملاء وهوالأستاذ حامد حسين تحدّث فى أحد اللقاءات بلباقة ولغة عربية رصينة فسمعها الدكتور أحمد قدرى رئيس الهيئة فى ذلك الوقت فصرف له مكافأة فى الحال بدلًا من تحويله للتحقيق لأنه تجاوز حدوده بالحديث دون استئذان، وهل العلم يحتاج للإستئذان؟


والمواقف تحتاج إلى مجلدات عن القائد العظيم، قائد سيناء الحقيقى، الذى يرقد بين عناية المولى عز وجل فى العناية المركزة بمستشفى الشرطة بالعجوزة نسأل الله العلى القدير أن يتم شفاه على خير ونسألك الدعاء له بالشفاء بإذن الله تعالى.

google-playkhamsatmostaqltradent