زيارة إلى مصر الجديدة، شارع الوسادة الخالية ورومانسيات الزمن الجميل
كتب د. عبد الرحيم ريحان
هل حلمت يومًا بالجلوس فى المقهى السويسري
«هوم ميد كيك»، لتناول فنجان «الكافي لاتي» كواحدة من أشهر وألذ أنواع القهوة السويسرية
وأنت مستغرق بين نغمات ب العندليب حليم
«تخونوه، وعمره ما خانكم»، بين جنبات أحد أكواخ الريف السويسرى بين أحضان جبال الألب وتتناول إفطارك السويسرى وحولك باقة من سيدات المجتمع الراقي.
فإذا كانت الإجابة بالنفى فارتحل معنا اليوم يصحبنا الرّحالة المهندس فاروق شرف خبير الترميم الدولى إلى مصر الجديدة، حيث المقهى السويسرى بشارع الكوربة، وذكريات العندليب فى الوسادة الخالية بشارع السباق وعودة إلى الزمن الجميل.
تعم وبلا جدال فهى من أرقى ضواحي القاهرة الكبرى أسسها البلجيكي «البارون أمبان» صاحب القصر الأثري، قصر البارون أمبان أحد معالم مصر الجديدة والذي تم ترميمه وافتتاحه كمزار أثري.
حي مصر الجديدة هو وجهة مصر الحضارية، وأحد مداخل العاصمة المضيئة، وأول مكان يستقبل القادمين إلى مصر من أنحاء العالم لوجود مطار القاهرة الدولي به، وأحد مداخل العاصمة للقادمين من محافظات الإسماعيلية والسويس.
يوضح المهندس فاروق شرف بأن تاريخ الحي يبدأ باسمه «مصر الجديدة» وهي المنطقة التي كانت تسمى قديمًا باسم مدينة «أون»، والتي عرفت في العهد اليوناني باسم «هيليوبوليس» أي مدينة الشمس
في العام 1905 بدأت حكاية حي هادئ ارستقراطي ففي هذا العام باعت الحكومة المصرية مساحة 5952 فدانًا صحراويًا إلى باغوص نوبار باشا، وإلى البارون امبان، صاحب بنك بروكسل البلجيكي، وذلك لإنشاء مشروعات إسكان وتشغيل خط مترو لربطها بالقاهرة بغرض التوسع العمراني وقتذاك، وفي العام 1910 تم إنشاء أول خطوط المترو السريع، كما افتتح أول فندق عالمي في الضاحية الهادئة التي خرجت من تحت رمال الصحراء، وهو فندق "هيليوبوليس بالاس" ثم تولت فى مرحلة لاحقة شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير مسؤولية تكملة البناء والعمران.
شوارع مصر الجديدة
يستقبلك حي مصر الجديدة بشوارعه العريضة، على جانبيها تصطف بيوت لا تتجاوز في ارتفاعها الأربعة أدوار، مداخلها مفصولة عن الشارع بممرات تحفها حدائق من الجانبين تتميز بالزهور والأشجار خاصة أشجار المانجو والجوافة.
الوسادة الخالية
ويشير الرّحالة المهندس فاروق شرف إلى أشهر شوارعها، شارع السباق وهو شارع عريض متسع وممتد في جمال مبانيه المتميزة بجماليات المعمار السويسري والبلجيكي، مع لمسة من المعمار الإسلامي تريح النفس، وهو الشارع الذي تم فيه تصوير الفيلم المصري «الوسادة الخالية» من إنتاج عام 1957 بطولة العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ ولبنى عبدالعزيز ومن إخراج صلاح أبو سيف، وهو من الأفلام الرومانسية الراقية التي خرجت من عباءة زمن جميل بكل مفردات التميز والروعة، والفيلم مقتبس عن رواية من تأليف إحسان عبدالقدوس الذي نجح ببراعة في وصف الطبقة الارستقراطية في زمن لغته الحب والرومانسية.
وحتى الآن كل من يسير في شارع السباق يجد نفسه تلقائيًا «يدندن» أغاني الفيلم «تخونوه» من تأليف إسماعيل الحبروك وألحان بليغ حمدي وغناء العندليب وأغنية «مشغول وحياتك مشغول» أ من تأليف إسماعيل الحبروك وتلحين محمد الموجي، وبها المشهد الشهير عندما رسم حليم على إحدى الأشجار الضخمة قلبًا كبيرًا.
الكوربة
ومن منا لا يعرف الكوربة من أشهر شوارع مصر الجديدة، يقع فيه المقهى السويسري «هوم ميد كيك» أي الكيك المصنع منزليًا، وهو اسم يعكس إيحاءات الألفة مع المكان، وتتميز مبانى شارع الكوربة بالتماذج بين طرز مختلفة بين العقود والقباب الإسلامية بالأعمدة الرومانسية ذات التيجان المنقوشة، لتتحد مع الأسقف المبنية بطريقة جمالية منحدرة، حتى لا تستقر عليها الأتربة ومياه الأمطار.
ويتابع المهندس فاروق شرف بأن منظومة الجمال والنظافة والرقي لحي مصر الجديدة، تحولت إلى تشريع بحيث أن عقود إيجار المباني أو تمليكها تشترط على ساكنيها الحفاظ على نظافة العمارة والعناية بالحدائق أمام العمارات وعدم نشر الغسيل في الحدائق ولا على حبال في بلكونات تطل على الشوارع الرئيسية، وعدم ترك القمامة أمام باب الشقق أو شقق الجيران، وعدم إزعاج الجيران، كل ذلك داخل منظومة جمالية تجعل من بيوت مصر الجديدة حالة خاصة جدًا.
شارع العروبة
ويعد شارع العروبة من أحد أرقى شوارع مصر الجديدة، فهو شارع تسكنه معظم شرائح الطبقة الارستقراطية في فلل أنيقة، تتألف من طابقين جميعها باللون الأبيض، تحفها حديقة شاسعة تتميز بزهور البنفسج والجاردينيا وأشجار المانجو والموالح والجوافة، وبها نافورات صغيرة جميلة الشكل وأخرى لري الحديقة وهو الري المعروف بطريقة «التنقيط المباشر» ولكل فيلا حارس أمين يرتدي السروال الأزرق بخيوط مذهبه وسائق يرتدي البذلة السوداء والكاسكيت والجوانتي أبيض، يهرول لفتح باب السيارة للهانم مثلما يفعل أحمد زكي في فيلم
(سواق الهانم)
خدم وحشم وطهاة لهم مبنى ضيق في حديقة الفيلا من الخلف،... وبستاني لرعاية الحديقة التي تأتي بذور النباتات الموجودة بها من إيطاليا وهولندا وسويسرا سلالم الفيلا من المرمر الأبيض الآتي من إيطاليا ويتميز أثاث هذه الفلل بالطابع الكلاسيكي الفرنسي
و تتألف الفيلا من حوالي عشر حجرات أرضيتها من الباركيه الفرنسي، والسجاد عجمي وشيرازي، بلكونات شاسعة تزيد المكان فخامة ورحابة.
كما يوجد ما يعرف باسم «جاردان ديفار»
أي «الحديقة الشتوية»، وهي عبارة عن بلكون مغلق بالزجاج المشطوف الملون وتحفه زروع طبيعية، وهو مكان تجتمع فيه الأسرة خلال فصل الشتاء، حيث تتسرب أشعة الشمس من خلال الزجاج الملون ويطوف «السفرجي» وقت العصاري بأقداح الشاي والسحلب والقرفة بالمكسرات، في الخلفية تشدو «الست ثومة» بأعذب أغانيها مثل «رق الحبيب» و«فات الميعاد» منظومة جمال وعذوبة وشياكة جميعها مفردات لزمن خاص.
شارع الأهرام
ويستكمل معنا قائد رحلتنا المهندس فاروق شرف التنقل بين لوحات مصر الجديدة إلى شارع الأهرام من أكبر وأعرض شوارع مصر الجديدة، يتميز بمحلاته الراقية الموجودة «تحت البواكي» وهو معمار خاص يتميز به هذا الشارع، به كذلك فرع من فروع محل جروبي، يصعد له بسلم رخامي، تمتد فوقه مقهى شاسع في الهواء الطلق، يزوره كل صباح عشرات الزوار ومحبي المكان، وفي الحادية عشرة من كل صباح يكون ملتقى رجال على المعاش يشربون القهوة التركي مع قطع الجاتوه، ويثرثرون في السياسة والاقتصاد ... وفي مقهى جروبي هذا صور فيلم " الجسر" لمحمود مرسي ومادلين طبر، ولا يفوت زوار جروبي أن يشتروا قطع الشوكولاتة والمارون جلاسيه البلجيكي الراقي والفوندون السويسري والمربيات المصنعة في مطابخ جروبي، أو إعطاء «أوردر» لتحضير حفلات عيد ميلاد الصغار والأحفاد.
وبطل الأبطال هو بائع الآيس كريم التابع لجروبي والذي يركب عجلة بها صندوق «ثلاجة» ممتلئة بالآيس كريم لكل نكهة منه لون يزركش علبة الآيس كريم ويصيح بطريقة مرحة لاجتذاب الصغار ويقول: «جروووووبي»، فيهرول إليه كل الصغار بملابسهم الملونة، فتكتمل منظومة الفرح، التي هي رمز من رموز حي مصر الجديدة.
ثم ننتقل إلى جامع إبراهيم بشارع الثورة وسينما روكسي ونورماندي والحرية وكريستال ومدرسة الفرير الفرنسية والساكركير والمانر هاوس والليسية فرانسية والثانوية النموذجية التي صورت مشاهد من مسلسل «حضرة المتهم أبي» بطولة نور الشريف ومعالي زايد
بالإضافة لوجود مقر القيادة المشتركة في شارع الثورة وبيت الرئيس حسني مبارك ( رحمة الله عليه)
مقهى الامفتريون.
اشتهر مقهى الامفتريون بتقديم المأكولات الفرنسية ومقهى ومطعم «لاكاجتنا» المتخصص في المأكولات الإيطالية، و«كورتيجاونو» المتخصص كذلك في أطباق «الستيك» على الطريقة الإيطالية.
وجميعها مطاعم النخبة والأسر الارستقراطية، ومقاه شبابية تحمل طابع المرح جميع روادها من الشباب «الفري كول» أشهرها كافيه «آلان لونتر» في واحد من أرقى شوارع مصر الجديدة .
شارع الميرغني
يضم «باك سوكريه» مقهى فرنسي رائع. الطابع المصري له حضور قوي بين هذه المقاهي والمطاعم أبو شقرة ملك الكباب، والشبراوي ملك الفول والطعمية والسلطات المصرية وشوربة العدس والكشري محلات الأسماك على الطريقة الاسكندرانية تملأ الحي.
ميدان الجامع
في «ميدان الجامع» محلات الذهب والفضة المشغولة يدويًا ومحلات الانتيكات النادرة، ومحلات الجلاليب الحريمي ذات الطابع المصري المستوحى من الريف محلات الجلود الطبيعية على جانبي الشارع، وسمى الشارع بميدان الجامع لأنه يتوسطه جامع كبير، عربات الفواكه وباعة النعناع الأخضر تفوح عبقًا لتملأ المكان محمصات متخصصة في تحميص البن وطحنه فيتطاير عبقه ليجذب عشاقه القهوة التركي
ونجد محلات وصالونات «الكوافير» الحريمي مكان للجميلات، غير بعيد منها محلات مصممي الأزياء "الدزاينر"
عودة السينما والفنون
ومؤخرًا دخلت مصر الجديدة بحضور قوي في السينما المصرية بعد بُعد المسافة فيما بينها وبين «الوسادة الخالية». فصور بها فيلم «في شقة مصر الجديدة» بطولة غادة عادل وخالد أبو النجا، من إخراج محمد خان، ومن إنتاج الشركة المصرية للإنتاج الإعلامي الذى فاز بجائزة أحسن فيلم في مهرجان دمشق السينمائي الدولي.
وفيلم «لعبة الحب» بطولة هند صبري وخالد أبو النجا وبُشرى، وصور في شارع من الشوارع الجانبية الشهيرة في مصر الجديدة، وهو شارع دمشق.
وتشهد ضاحية مصر الجديدة نشاطًا في الفن التشكيلي، فقد أنشأ الفنان التشكيلي عادل حلمي بها قاعة عملاقة لعرض اللوحات التشكيلية هي قاعة «عادل حلمي للفنون» بدأت بافتتاح معرض جماعي يضم نحو خمسين فنانًا في الفن التشكيلي والنحت والجرافيك وفن الزجاج، وتزخر القاعة بمئات الزوار من عشاق الفن التشكيلي بصفة خاصة والفنون الأخرى بصفة عامة.
من أشهر العارضين في القاعة الفنان حازم فتح الله،د حيث قدم لوحتين جرافيك من أحدث إنتاجه الفني،د وحقق رؤيته من خلال السطح البارز، وترجع الفكرة الأساسية للعملين إلى الثمانينات، وهي فكرة معايشة الفنان من خلال العمل لقيم الحب... الحياة... ..الموت
وهي ركيزة ثلاثية تميز أعمال الفنان حازم فتح الله.
الحركة التشكيلية الحديثة تفرض حضورها الرائع والمميز في قاعة «مصر الجديدة للفنون الحديثة»، حيث يعرض فيها لفنانين تشكيليين شبان، أبرزهم محمد عابد الذي أبدع الرسم والتلوين بالبن بكل أنواعه، فيستخدم البن الأخضر والبني والأسود في رسم وتلوين البورتريهات التي تميز برسمها، تتوسط القاعة لوحة تعكس قصر البارون، وأخرى تعكس بورتريه لمؤسس مصر الجديدة.
وفى النهاية فقد رسم لنا «البارون امبان» وفريقه من المهندسين أكبر لوحة تشكيلية على الأرض فى العالم أطلف عليها "مصر الجديدة"، رسمت على أسس متعددة في البناء، حيث تم تقسيم الحي إلى مناطق مختلفة لكل منها اشتراطاتها المعمارية وفقًا وطبقًا لنوعية الحياة التي ستكون سائدة فيها، ابتداءً من الفيلات والقصورالموجودة في منطقة شارع العروبة وألماظة وانتهاءً بالمناطق الصناعية مرورًا بالحدائق العامة والملاهي الخاصة بالأطفال ومضمار سباق الخيل والمدارس الخاصة بالنخبة.
وكل منطقة من المناطق بحي مصر الجديدة لها طابعها المعماري الخاص بها من حيث المعمار والألوان والحدائق وعدد الطوابق ونسبة المباني إلى الفراغات.