عالية الشاعر تكتب : ليلى تصارع دهاء الذئب
عالية الشاعر
استفقتُ من كابوسي على مشهدٍ مفزعٍ لأمي التي وزّعت أطرفها في كل الاتجاهات لتلملمَ بقايا الأوصال المبعثرة للشهداء الذين قُصفوا بأدوات قتل مسوخ غيلان فرّوا من عصر الهمجية، مُلئتُ رعباً وانا أرقبُ يداي وقدماي أمي التي امتدت واستطالت لتغدو أطول من شوارع وأزقة مخيمات غزة، وأشحتُ بناظري ذعراً عندما رأيتُ عينيها خارجتين من محجريهما وقد فاضتا بدمعها على الأطفال الذين مزّقت صرخاتهم حناجرهم الطرية بعد ان صُمّت عنهم آذان المستكنين، توسلت اليها يا أمي ارحميني من خوفي منك، أنسيت انك حدثتني عن ذئب استطالت وكبرت اطرافه فابتلع براءة ليلى بطرفة عين؟ لم تبالِ أمي بالحيرة في سؤالي ولم تكترث لارتعادي وذهولي بل أصرّت وأكّدت بحكمتها أن الرحمة تكمنُ في مربض الذئب وعرين الأسود.
حل الليل صافياً بنجوم مبهرة بعد أن فرغت أمي المطعونة قهراً من نحر الهزيمة على الطرقات التي امتدت مسافاتها، بمآسي زلزلت فظاعاتها ظاهر الأرض وباطنها، ووقفت ليلى بجانبها لتحكي قصة جديدة مفادها ان الذئب لا يقارعه ولا يفتك به الا ذئب أشدُ خداعاً وأمكر من مكره رحمة بالمستضعفين في الأرض، فطوبى لشبابك يا فلسطين الذين تمكنوا بحنكتهم من الموازنة بين دهاء الذئاب وقوة الأسود وأقسموا ان يحموا ليلى الحاضرة والآتية من بطش حكومة إسرائيل المسعورة بهستيريا العنصرية المُشبّعة عقولهم قولا وفعلا بأبشع اشكال الفاشية والنازية.
يا أحرار العالم الذين من فطرتكم السليمة اصطبغتم بقيم العدالة الإنسانية، فلتلهج السنتكم بالثناء والعرفان لشيوخ ونساء وأطفال، أركعوا التحدي على ركبتيه اجلالاً لهم بعد أن تفوقوا عليه بشجاعتهم ورباطهم على أرضهم ، فعلّقت البطولة على صدروهم نياشين شرف لكرامة لا تستباح ولا تهان بصمودٍ اسطوري ضد أشرس وأعتى عدوان.
تراءت أمي كمعظم نساء فلسطين أكثر رأفة وشفافية وهي التي ما فتئت تعضُ بجبروت على أحزانها وآلامها لتمُدَ أبنائها بإرادة لا تلين وتحثهم على المضي افواجاً لإنقاذ فلسطين وإنعاشها بنهضة تسابق عقارب الزمن فينتشوا بأعظم إنجاز إنساني اسمه بناء الوطن، هذه السيدة العظيمة الصابرة التي باتت تعصر من كبدها الملتاع دواء العزة والكبرياء علّهُ يسري في روحها بلسماً كي لا يلمح في عينيها انكساراً للتماسك المهيب فتضعف همم الرجال المشحوذة هممهم على نصل جأشها المترابط الذي انغرس عميقاً في معنويات الأعداء فاصبحوا يرددون بما تعتمل بهِ أنفسهم العفنة من شدة الاجرام، واصفين من غيظهم المقاومين الأبطال بالحيوانات والوحوش، هؤلاء الصهاينة السفاحون ستحرق أكاذيبهم باللهيب المتأجج لألسنة الحق والحقيقة.
صحوت من حلمي على وجه أمي لأفتنَ بتقاسيم خلتُها مرسومة بريشة مبدع سرمدية، زين شعرها من قوس الطَيفْ بألوانٍ عبقرية وأبهرَ بصفاء عينيها قرص الشمس المختال بأشعته الربانية، ركضت اليها ملهوفة مستجديةً رحمتها: يا أمي ضميني طفلة تائبة وانا التي سكنني الرعب منك جهلاً مني بادئ الأمر، فرمقتني شوقاً وغمرتني حباً وحناناَ زاداً لي حتى آخر العمر، وهمست بكلمات صوتها آتٍ من عمق ينبوع الراحة والهدوء: الآن سأمضى مطمئنة الى مرقدي بعد ان فهمت لماذا رأيتني بمظهر الذئب، ثم صعدت على سحابة ليلكية لتسافر روحها من عمّان الى القدس للاحتفاء مع الجموع بالنصر القريب وبالصلاة في المسجد الأقصى المبارك، وزيارة كنسية القيامة المقدسة.
اعدك يا أمي بأني سأنثرُ زهرا من اللّيلَك على ثراكِ فانت اكثر من أحببته ربما لأن لونه الداكن كان يشبه حزنك على فراق الوطن.