تحرك الجبل .. وانتقل المعبدان، حكايات نقل معبد أبو سمبل
كتب - د.عبد الرحيم ريحان
تحرك الجبل .. وانتقل المعبدان، ارتفع ماء النيل ليتم لقاء جديد بين النهر والجبل .
أكبر قبة فى العالم بناها المهندسون فوق المعبد ووضعوا فوقها 320 ألف متر مربع دبش .
ناس القرية عاشت تنتظر شعاع الشمس وتسمع رقرقة أجنحة الطيور واستقبلت الآلات والطائرات والدراسات العلمية.
رحلتنا اليوم إلى النوبة، إلى ذاكرة مصر وحكايات نقل معبدين منحوتين فى الصخر من أكثر من ثلاثون قرنًا من الزمان فأصبح أثرًا لملك أراد الخلود لبلاد النوبة وذلك لعبادة إله الشمس بمعبدى أبو سنبل وستة معابد أخرى على طول النوبة .. ملك مصر العليا والسفلى الملك رمسيس الثانى.
يصحبنا عبر هذه الرحلة المهندس فاروق شرف استشارى وخبير الترميم والمنشآت التاريخية
معبد أبو سمبل هو موقع أثري يقع على الضفة الغربية لبحيرة ناصر بنحو 290 كم تقريبًا جنوب غرب أسوان .. وهو أحد مواقع "آثار النوبة" المدرجة ضمن قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي والتي تبدأ من اتجاه جريان النهر من أبو سمبل إلى جزيرة فيلة أسوان.
اكتشاف المعبد
يشير المهندس فاروق شرف إلى أنه مع مرور الوقت هجرت المعابد فبالتالي أصبحت تغطيها الرمال. وفي ذلك الحين خلال القرن السادس قبل الميلاد، كانت الرمال تغطي تماثيل المعبد الرئيسي حتى الركبتين.
وكان المعبد منسيًا حتى عام 1813م، عندما عثر المستشرق السويسري (جي أل بورخاردت) على كورنيش المعبد الرئيسي.
وتحدث بورخاردت عن هذا الاكتشاف مع نظيره الإيطالي المستكشف (جيوفاني بيلونزي)، الذين سافروا معًا إلى الموقع، لكنهم لم يتمكنوا من حفر مدخل للمعبد. وعاد بيلونزي في 1817، ولكن هذه المرة نجح في محاولته لدخول المجمع. وأخذ كل شيء قيم يمكن أن يحمله معه.
اسم أبو سمبل
المرشدين السياحيين في الموقع يربطوا أسطورة اسم أبو سمبل، أنه كان فتى محلي صغير وهو الذي قاد المستكشفين إلى الموقع من جديد في وقت مبكر للمعبد المدفون الذي كان يراه من وقت لآخر في الرمال المتحركة .. في نهاية المطاف، أطلقوا اسم أبو سمبل على المعبد تبعًا لاسمه.
نداء عالمى لإنقاذ المعبدين
ينوه المهندس فاروق شرف إلى أن هذه المعابد كانت كنصب دائم للملك رمسيس الثانى وزوجته الملكة نفرتاري، للاحتفال بذكرى انتصاره في معركة قادش.
وكان من الضروري نقل المعابد لتجنب تعرضهم للغرق خلال إنشاء بحيرة ناصر، وتشكل خزان المياه الاصطناعي الضخم بعد بناء السد العالي في أسوان على نهر النيل.
فكان النداء للعالم من خلال ندوة للعقل والفكر ومسرحًا لمناقشة الكثير من الآراء والأفكار بل وأحاديث سياسية عميقة ربطت بين الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك ومعبدى أبى سنبل وإنقاذ جزيرة فيلة بمعابدها .. وكان أجمل ماقيل خطاب البروفسور (كارنيرو) وخطاب (رينيه ماهو) ردًا على كلمة ترحيب وتقدير ألقاها الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك فقد أشاد فيها بالخبراء الذين ساهموا فى هذا العمل ومن بينهم الدكتور حسن ذكى الذى وصفه مدير اليونسكو بأنه الرجل الذى تمثلت فيه عبقرية النيل وكان ذلك فى وجود مدير الآثار آنذاك أنور شكرى وعبد المنعم الصاوى رئيس لجنة إنقاذ آثار النوبة والعالم الأثرى آدم شحاته.
إنتهز (رينيه ماهو) هذه الفرصة ليوجه من موقع العمل فى أبو سنبل أول نداء إلى العالم يطالب بإنقاذ معابد فيلة .. وبدأت حملة تبرعات دولية لإنقاذ النصب من الغرق في عام 1959: فإن الآثار الجنوبية القديمة لهذه الحضارة الإنسانية كانت تحت تهديد ارتفاع مياه نهر النيل، التي كانت على وشك أن تنتج عن عملية بناء السد العالي في أسوان.
بداية الإنقاذ
ويضيف المهندس فاروق شرف بأن انقاذ معابد أبو سمبل بدأ في عام 1964، وتكلفت هذه العملية 40 مليون دولار. بين عامي 1964 و1968، فقد تقطّع الموقع كله إلى كتل كبيرة (تصل إلى 30 طن وفي المتوسط 20 طن)، وتم تفكيكها وأعيد تركيبها في موقع جديد على ارتفاع 65 م و200 م أعلى من مستوى النهر، وتعتبر للكثير واحدة من أعظم الأعمال في الهندسة الأثرية التى أنقذت بعض الهياكل من تحت مياة بحيرة ناصر.
يتكون مجمع المعابد من معبدين، الأكبر مخصص لثلاثة آلهة لمصر في ذلك الوقت وهم راع- حاراختي، وبتاح، وامون، ويبرز في الواجهة أربعة تماثيل كبيرة لرمسيس الثاني، والمعبد الأصغر مخصص للالهة حتحور، التى تجسّدها نفرتاري، زوجة رمسيس الأكثر حبًا إلى قلبه (وكان لرمسيس الثانى200 زوجة وخليلة في المجموع).
أربعة تماثيل ضخمة للملك رمسيس يصل طولها إلى 20 م لتزيين واجهة المعبد، والذي يبلغ عرضه 35 مترًا، ومكلل بكورنيش فيه 22 قرد الرباح، ويحيط المدخل عبدة الشمس .. وكانت التماثيل الضخمة منحوتة مباشرة من الصخور وهى تمثل رمسيس الثاني جالسًا على العرش ومرتديًا التاج المزدوج للوجهين البحري والقبلي لمصر.
بجوار الساقين للتمثال الضخم، هناك تماثيل أخرى لا تزيد في الارتفاع عن الركبتين من الملك.. وهذا يصور نفرتاري الزوجة الرئيسية لرمسيس، والملكة الأم موتاي، وله ابنان أمون هر خبشف، رمسيس، وله ست بنات بنتاناث، باكتموت، نفرتاري، مريتامن، نيبتاوي، وأستنوفرت.
وعلى رأس واجهة المبنى متوج بصف من 22 قرد الرباح وأذرعتهم مرفوعة في الهواء، ويفترض أنهم يعبدون الشمس المشرقة .. وملامح بارزة أخرى لواجهة المبنى هو لوحة يسجل فيها زواج رمسيس من ابنة الملك هاتسيلي الثالث، والتي أدت إلى السلام بين مصر وهيتيتس.
تعامد الشمس
وعن ظاهرة تعامد الشمس يوضح المهندس فاروق شرف أن محور المعبد وضع في مكانه من قبل المهندس المصري القديم بطريقة بحيث تخترق أشعة الشمس المعبد، مرتين في العام، يوم 22 أكتوبر و21 فبراير، ويلقى الضوء على التمثال فيظهر على الجدار الخلفي، باستثناء تمثال بتاح، الإله المرتبط بالجحيم، والذي ظل دائمًا في الظلام .. ويقال أن هذه التواريخ هي مناسبة عيد ميلاد الملك وعلى التوالي يوم تتويجه، ولكن لا يوجد دليل يدعم هذا، وإن كان من المنطقي تمامًا أن نفترض أن بعض هذه المواعيد لها علاقة لحدث كبير، مثل الاحتفال بالذكرى الثلاثين لحكم الملك.
معبد حتحور ونفرتاري، والمعروف أيضا باسم المعبد الصغير، بني على بعد حوالى مائة متر إلى الشمال الشرقي من معبد رمسيس الثاني وكانت قد خصصت للإلهة حتحور، ورمسيس الثاني، وزوجته نفرتاري .. وتصميم المعبد الصغير هو نسخة مبسطة للمعبد الكبير
عملية إنقاذ المعابد
يؤكد المهندس فاروق شرف أن عملية إنقاذ معابد أبو سنبل وما تم بها من دراسات متكاملة والتنفيذ من تقطيع ونقل وتركيب وترميم تعتبر من أعظم الأعمال الهندسية الأثرية.
وهناك شخصيات محفورة فى الذاكرة المصرية ساهمت بشكل ملموس فى الإنقاذ ومنهم منفذ الفكرة وهو الفنان أحمد عثمان، مؤسس كلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية، الذى كان له دورًا مؤثرًا فى الحفاظ على التراث المصرى، وذلك ثبت من خلال مجموعة من الوثائق لمشروع نقل المعبد التى نشرها خبير الفنون حسام رشوان عام 2020، التى تثبت دور الفنان الراحل أحمد عثمان فى نقل معبد أبو سمبل، وبدوره كفنان مسئول ومحب لتراث بلاده، أعد تقريرًا حول مشروع نقل معبد أبو سمبل من غمر مياه بحيرة ناصر بالتفكيك وإعادة تجميع المعبد مرة أخرى، وبالفعل تقدم بالمشروع يوم 18 يناير من عام 1959، إلى الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك، أى قبل نقل المشروع ب 8 سنوات.