اقرأ التفاصيل
recent
أخبار عاجلة

الأوستراكا : رسائل من الماضي

 الأوستراكا : رسائل من الماضي 


الأوستراكا : رسائل من الماضي


الأوستراكا : رسائل من الماضي 

كتبت - دكتورة ميرنا القاضي 

مرشده سياحية وباحثة في علم المصريات والشرق الادني 


في أعماق الزمن، عاشت قطع فنية تحمل في طياتها أسرارًا وحكاياتٍ تروي حياة الناس وثقافتهم. 

تلك القطع الصغيرة المنقوشة على الحجر الجيري والفخار تعرف بـ "الأوستراكا".


 هذا الفن القديم يمثل نافذة إلى عالم مصر القديمة، حيث تجتمع فيه الحروف والرموز والألوان لتروي قصصًا تمتد لآلاف السنين.


في هذه القطع الصغيرة، نجد أصداء حضارة عظيمة،  إنها تذكير بأن الفن ليس مجرد جمالٍ بصري، بل هو أيضًا رسالة تحمل أحلامًا وأفكارًا تعبر عن الإنسانية وتربطنا بماضينا العريق.


الأوستراكا : رسائل من الماضي



ونتسلل إلى أروقة الزمن ونكتشف ماضيًا يعيش في تلك القطع الصغيرة من الأوستراكا.


تعريف الأوستراكا:

الأوستراكا هي قطع صغيرة من الفخار أو الحجر الجيري، وكانت تستخدم في مصر القديمة للكتابة والرسم.

 تعني كلمة "الأوستراكا" باليونانية “أوستراكون” "شقفة إناء".

 كانت هذه القطع متوفرة بشكل أكبر وأرخص من أوراق البردي، وهي مادة كتابية غالية الثمن.


كانت أوراق البردي تأخذ وقتًا طويلًا في التصنيع والتجفيف، وفي المقابل كانت الأحجار الجيرية أو قطع الفخار المكسور تستخدم بشكل أكثر لدى الطلاب لممارسة الكتابة عليها.


استخدامات الأوستراكا:

الأوستراكا كانت تستخدم في الحياة اليومية، سواء من قبل التلاميذ لممارسة الكتابة أو من قبل المعلمين لتدوين الملاحظات. 

ومن بين هذه القطع، اكتشفنا رسائل من التلاميذ المشاغبين، يبدو أنهم لم يكونوا مختلفين كثيرًا عن أقرانهم اليوم! 

فقد تم اكتشاف سطور كتبها عدد من "التلاميذ المشاغبين" من بين 18 ألف قطعة من الفخار المنقوش المكتشفة 

فقد أجرت جامعة توبنغن الألمانية عملية تنقيب بالاشتراك مع وزارة السياحة والآثار المصرية. لمستوطنة أثريب القديمة داخل مدينة بنها والتي كان لها في الماضي البعيد والقريب شأن عالي حيث أنها كانت مدينة لا تقل أهميتها عن مدينة طيبة في عصر القدماء .


الأوستراكا : رسائل من الماضي


ووفقاً للبروفسور كريستيان ليتز من جامعة توبنغن، الذي قاد عمليات التنقيب، فإن العديد من الشظايا الفخارية نشأت من مدرسة قديمة.


هناك قوائم بالأشهر والأرقام والمسائل الحسابية، والتمارين النحوية وأبجدية الطيور.


ويحتوي عدد كبير من الأوستراكا أيضاً على تمارين للكتابة يصنفها الفريق كعقاب دراسي. إذ تنقش الشظايا الفخارية بحرف واحد أو اثنين في كل مرة، في الأمام والخلف على السواء.


أن كتاب فن الرسم عند القدماء لمؤلفه 

« وليم هـ . بيك» يضم بين صفحاته عشرات الرسوم التي وجدت على قطع الأوستراكا، كما يوفر الكثير من المعلومات التاريخية حول ما حوته قطع الأوستراكا من فنون وخطوط مبهرة.


الأوستراكا : رسائل من الماضي

 كانت الأوستراكا تستخدم أيضًا في أغراض غير تعليمية كتدوين سجلات البضائع وحساب الضرائب، ورسم الأشكال التمهيدية للأعمال الفنية قبل تنفيذها  للعمل على المقابر كرسم أولى أو كتمارين للمتدربين  حيث كان الفنانون الذين يعملون في رسم جدران واسطح مقابر ملوك ونبلاء  في جبانة طيبة وجبل القرنة غرب مدينة الأقصر يطلقون العنان  لخيالهم وأقلامهم للرسم على قطع الأوستراكا التي وجدوا فيها فنا حيويا يجمع بين طرز ومدارس فنية مختلفة .



ان تلك الاسكتشات التي وجدت مرسومة ومحفوظة على قطع من الحجر الجيري الرقيقة وقطع الأواني الفخارية المهشمة ،في مدينة العمال التي تعرف اليوم باسم  "دير المدينة"  في البر الغربي لمدينة الأقصر الغنية بمئات المقابر وعشرات المعابد  بصعيد مصر.


الأوستراكا : رسائل من الماضي



الأوستراكا كنافذة إلى الإنسانية:

 لقد تم الكشف بعمليات التنقيب وسط جبانة طيبة القديمة، على آلاف من قطع الأوستراكا التي يرجع معظمها إلى الأسرتين الثامنة عشرة والعشرين في مصر القديمة.  القطع المكتشفة من الأوستراكا وجدت عليها نصوص أدبية وحكم وأشعار غرامية ورسائل وحسابات وقوائم بأسماء عمال، بجانب نقوش ورسوم فنية مدهشة  بالحبر الأسود والأحمر على رقائق كبيرة من الحجر الجيري. ويبدو أن هذه الرسومات كانت من أعمال الحرفيين من فترة رمسيس الذين قاموا بحفر وتزيين المقابر في وادي الملوك. تم العثور على العديد من القطع المشابهة بالقرب من معبد حتشبسوت الجنائزي ومعبد تحتمس الثالث الجنائزي في دير البحري.


الأوستراكا : رسائل من الماضي



تقدم لوحات أوستراكا أيضًا خاصة التي تم اكتشافها بالقرب من دير المدينة لمحة رائعة عن الرعاية الطبية في مصر القديمة. 

فقد كان يتم التعامل مع الإصابات أو المرض عن طريق الجمع بين العلاج الطبي والصلاة والسحر، وكان الأطباء يصفوا العلاج عن طريق وصف طريقة خلط الوصفات للمرضى على لوحات أوستراكا فقد كانت أغلب هذه العلاجات يتم تحضيرها بخلط بعض الأعشاب والمكونات في المنزل، وكان يتم تدوين التعاويذ السحرية أيضا على لوحات الأوستراكا للحماية من لدغات العقارب والثعابين.



آخر اكتشاف مثير للاهتمام هو اكتشاف لوحات أوستراكا في سراديب الموتى بمنطقة سقارة والتي وجد فيها تدوينات للأحلام ولوحات أخرى مكتوب عليها تفسيرات لهذه الأحلام. 


والمدهش ايضا أن الأوستراكا كان يتم تقديمها كنذور للآلهة وللمتوفى. 

ومن ضمن الأوستراكا التي رصدناها في متحف الوادي الجديد،مجموعة من العصر الروماني عليها كتابات بالقبطية والديموطيقية ومدون عليها عقود بيع وشراء أراضي زراعية،وكميات المحاصيل وأجور المزارعين وحفر أبار وتحديد ساعات الري  وهناك أوستراكا وهي عبارة عن خطاب شخصي كتبه رجل يدعي بوحنس إلي رجل أخر يسمي مارتيس يسلم عليه،ويطلب منه خدمة وهي أن يسافر شمالا ليحضر خادم إلي إمرأة مريضة وسيدفع له الأجر الذي يرغب به أن الأوستراكا ظل لفترة كبيرة من أدوات الكتابة في عدة عصور زمنية تاريخية.



الأوستراكا الصغيرة والكبيرة:

 لقد تنوعت أحجام وأشكال لوحات الأوستراكا، ففي الغالب كانت الأوستراكا صغيرة الحجم ولا تحمل سوى الملاحظات أو الرسومات الصغيرة، لكنها كانت في أحيان أخرى، كبيرة الحجم، مثل لوحة الأوستراكا الضخمة التي دونت عليها قصة سنوحي وعثر عليها في قبر الحرفي سنجمم في دير المدينة بمنطقة البر الغربي بمحافظة الأقصر. 

هذه القطعة الفنية الكبيرة تحمل في طياتها حكاية قديمة تروي حياة الناس وثقافتهم في مصر القديمة.



أن معظم الفخاريات المكتشفة صغيرة الحجم وسهلة الحمل، بعضها بحجم كف اليد تقريباً، يحتفظ  في مخزن  المتحف المصري في حجرتين منه على كميات ضخمة، تتناول الحياة المصرية والكائنات والأشجار والألعاب، وبعضها تعليمي

 يتدرّب عليها الرسّامون في مراحل التعليم الأوّلى.


   يحتوي ايضا  معرض الآثار العربية في جزيرة إلفنتين على كسرات فخارية تحمل نقوشًا عربية تؤرخ للعصر الإسلامي المبكر (القرنين السابع والتاسع الميلادي)والبلغ عددها نحو ألف قطعة من الأوستراكا العربية،منها 300 قطعة لها قيمة أثرية وعلمية تتميز بقيمتها التاريخية الكبيرة .


الأوستراكا المصورة، التي يفسرها بعض علماء المصريات على أنها سخرية بصرية للتسلسل الاجتماعي المصري:


السُّخْريَّة في قطع الأوستراكا تعكس الجوانب الهزلية والتهكم على الأحداث والشخصيات. يُعتقد أن المصريين القدماء استخدموا الأوستراكا للتعبير عن آرائهم في أصحاب السلطة. 


في إحدى قطع الأوستراكا، نرى استخدام الحيوانات والرموز البسيطة للتعبير عن الواقع بشكل  مثالًا على قطعة أوستراكا   تُصوِّر حيوانات مجنَّسة بأدوار مختلفة ومضحكة، مثل فئران يخدمهاالقطط 

او بط يتحكم فيهم قط .


او قردًا جالسًا يتفاعل مع قط ذو قدمين تصور هذه الصور الحيوانات وكأنها بشر وتقدم عوالم مقلوبة حيث يكون كل شيء على عكس طبيعته. تمثل هذه الأوستراكا الصور المصورة عادة حجم الكف، وتصور صورة واحدة أو حدثًا دون أي نص مرافق. 


الأوستراكا : رسائل من الماضي




الأوستراكا اليوم:

حديثاً، أصبح لفظ "أوستراكا" رمزاً فنياً تقام تحت اسمه أعمال فنية متعدّدة وورش عمل في النحت ومهرجانات دولية في الفن التشكيلي ومن أبرز الفعاليات المقامة مؤخراً: ورشة "سيمبوزيوم أوستراكا"  للنحت الدولي في مدينة الغردقة  وضمّت الفعاليات نحّاتين من عدة دول منها روسيا وجورجيا وإيطاليا وألبانيا وصربيا وبيلاروسيا وتركيا وكوريا الجنوبية إضافة إلى مصر.



في العالم القديم لمصر، كان الفن ليس فقط وسيلة للتعبير الجمالي والإبداع

 بل كان مكرسًا لخدمة الدولة والعقيدة. 



على الرغم من تشابكه بالديانة والأيديولوجيا، كان للفن المصري القديم حرية تعبيرية ملحوظة تجسدت في رؤية مثالية للعالم تعكس الخلود وتتجاوز الزمن.



تُعد الأوستراكا المصرية مرجعًا أساسيًا لدراسة حياة الناس البسطاء في مصر القديمة، حيث تحافظ هذه اللوحات على تفاصيل حياتهم بشكل ملموس ومعبر وبفضل المناخ الحار في مصر، تظل هذه الرسومات عالقة في زمنها الأصلي.



ويستمر الفن المصري القديم في إلهام العالم حتى يومنا هذا، حيث يعكس تراثًا ثقافيًا فريدًا ومعقدًا يتجاوز حدود الزمن.

google-playkhamsatmostaqltradent