استكشاف أسرار الأوزيريون : ماذا يكشف كتاب الكهوف وممرات أبيدوس؟
استكشاف أسرار الأوزيريون
كتبت - دكتورة ميرنا القاضي
سفيرة دولة روسيا للملف السياحي ومرشدة سياحية وباحثة في علم المصريات والشرق الأدني
تنبض صحراء مصر القديمة بقصصها العريقة، وفي قلب تلك الرمال الذهبية يقف معبد الأوزيريون من خلال أعمدته الضخمة المنحوتة من كتلة واحدة من الحجر، والتي يصل وزن كل منها إلى أكثر من 60 طن، إلى تصميمه المعماري الفريد الذي يتحدى الزمن شامخة لبراعة المصريين القدماء وحكاياتهم الخالدة.
يقف هذا العمل المعماري العميق كتابًا حيًا يحكي لنا عن تقنيات البناء الرائعة والرمزية الدينية الغامضة التي تشكلت على أرضه المقدسة.
أبيدوس، المدينة التي تحتضن هذا المعبد العظيم، كانت عاصمة مصر الأولى في نهاية عصر ما قبل الأسر والأسر الأربع الأولى. إنها ليست مجرد موقع أثري، بل هو بوابة إلى عالم آخر، عالم مليء بالرموز والكتابات التي تحكي قصصاً عن الحياة والموت، ومكاناً مقدساً للحج في مصر القديمة.
في هذا المقال، سنغوص في أعماق معبد الأوزيريون في أبيدوس، ونستكشف أسراره الغامضة من خلال كتاب الكهوف والممرات المقدسة.
سنطرح العديد من الأسئلة ونحاول الإجابة عليها بشكل بسيط، لنكشف النقاب عن الرمزية الدينية العميقة والتصميم المعماري الفريد .
انضموا إلينا في هذه الرحلة الاستكشافية الفريدة، لنكتشف سويًا عمق المعاني وجمال الفن في معبد الأوزيريون
تحفة تحمل بصمات الزمن وأسرار الكون.
ماهي الأسرار الغامضة التي تجعل معبد الأوزيريون في أبيدوس فريد ورمزية دينية عميقة؟
انه التصميم المعماري الفريد لمعبد الأوزيريون فهو تحفة معمارية غامضة حيث يحتوي على ممرات تحت الأرض وغرف مقدسة وأعمدة ضخمة تغمرها المياه جزئيًا، مما يضفي عليه جوًا من السحر والغموض.
هذه الممرات تحتوي على نقوش تصور كتاب الكهوف على الجانب الشمالي الشرقي، وكتابات تخص الموتى والحساب بعد الموت، وتفاصيل عن الجنة والنار في العقيدة المصرية القديمة.
وعلى الجدار المقابل، توجد نقوش تصور كتاب الموتى، الذي يقدم تفاصيل عن الجنة والنار في العقيدة المصرية القديمة.
هذه النقوش تُظهر الرحلة الليلية للإله رع عبر العالم السفلي، وهي رحلة يمر فيها إله الشمس فوق كهوف جهنم، حيث يتم تدمير أعداء الدولة المصرية، أي أعداء رع وأوزيريس.
يعطي كتاب الكهوف بعض الملامح حول هيكل الطبوغرافية المتصورة للعالم الآخر مما يعزز الفكرة بأن المعبد كان له دور مهم في الطقوس الجنائزية والعبادات المرتبطة بالعالم الآخر.
ما هو كتاب الكهوف؟
"كتاب الكهوف" أو "كتاب القبور" بالإنجليزية
"The Book of Caves"
أو
"The Book of Tombs"
هو كتاب جنائزي مصري قديم يصف كتاب الكهوف عن مصير الأرواح فى العالم الاخر، وقانون الكارما
( اي قانون السبب والنتيجة)
و قانون كوني يقضي بأن من يدين يدان ومن يحمل دينا فلابد أن يسدده ، ويتناول كتاب الكهوف أيضاً مصير الأرواح التي لا تنجح في اجتياز المحاكمة فى قاعة الماعت أمام أوزير وما تلقاه من سوء المصير ، وأيضا مصير الأرواح التى تجتاز المحاكمة وما تلقاه من حسن العاقبة ويعتبر كتاب الكهوف أفضل مصدر يمكن منه التعرف على مفهوم "الجحيم" في الحضارة المصرية .
يحتوي الكتاب على سبع لوحات ومشاهد رائعة تقترب من 80 مشهداً مختلفاً، وهي مقسمة إلى قسمين مع ثلاث لوحات لكل منهما، إضافة إلى اللوحة النهائية.
ولعل ما يميز كتاب الكهوف أو كتاب المقابر، هو أنه يميل إلى الناحية الوصفية الكتابيه أكثر كثيراً جداً من الجهة التصويرية، ومن كتب أدبية جنائزية عديدة عرفها المصري القديم، لا سيما في زمن الدولة الحديثة، ومنها كتاب "الآخرة" أو كتاب "البوابات".
ويصف الكتاب رحلة رع
(مصطحبا معه أرواح الموتى) فى العالم السفلى من خلال كهوف وهى رحلة يمر خلالها بصعوبات كثيرة وتساعده قوى كونية على اجتياز تلك الصعوبات .
يمر "رع" فى كهوف العالم السفلى وبصحبته روح المتوفى ، وفي كل كهف من كهوف العالم السفلى تقابل الروح أحد المصاعب وتواجه اختبار عليها أن تجتازه بنجاح والا سيكون مصيرها هو "الفناء"
كان الفناء عند قدماء المصريين هو أسوأ مصير يمكن أن تواجهه الروح ، ويعبر عنه الفنان بشكل جسم انسان وقد قطعت رأسه وانتزع قلبه من بين ضلوعه.
يتناول القسم الأول من الكتاب "رع" حينما يبدأ رحلته فى العالم السفلي ويدخل مملكة الظلام لكى يدافع عن أوزير ويحميه وأيضا يقوم بارشاد أرواح الموتى فى رحلتهم فى العالم السفلى ، يمر رع بالكهف الأول الذى تحمى مدخله الحيات ويحيى رع أوزير بأن يمد يده اليه ، حيث يقبع أوزير فى تابوته تحرسه الحيات وأثناء المرور بالكهف الذى يقبع به أوزير تلقى الأرواح التعيسه التى لم تجتاز المحاكمة مصيرها المشئوم فتقطع رؤسها أى تلقى مصير الفناء ، فنرى أوزير وتحته أجساد الأرواح التى قضى عليها بالفناء
(هذا هو مفهوم الجحيم عند قدماء المصريين)
ويطلق على المكان الذى يقضى على الأرواح فيه اسم (مكان الابادة) حيث يقوم بتنفيذ العقاب حراس يحملون بأيديهم سكينا .
وتعتبر الكهوف فى كتب العالم الاخر في مصر القديمة بمثابة الجحيم لأعداء رع فهى المكان الذى يلقون فيه سوء المصير
وفي نفس الوقت تكون تلك الكهوف مكانا آمنا للأرواح المستنيرة التى اكتسبت معرفة روحية فى حياتها على الأرض حيث تقوم النترو (القوى الكونية) بمساعدة تلك الأرواح الطيبة وتقديم المدد من الطاقة لها ومساعدتها فى المرور واجتياز العقبات
ويمر رع فى رحلتة فى كهوف العالم السفلى بقوى كونية مختلفة ، تحرس كل كهف احدى القوى ، ومن أشهر النترو (القوى الكونية) التى يتميز بها كتاب الكهوف شكل جسد رجل يشبه "مين" ويطلق عليه اسم (الذى يخفى الساعات)
وهو رمز للقوة الكونية التى تساعد الانسان على اختراق الزمن بما في ذلك المكافآت للمتقين والعقوبات لأعداء النظام الدنيوي.
غير أنه ومن المؤسف القول، إن النسخة الكاملة تقريباً المعروفة لنا من كتاب الكهوف تضررت مناظرها العلوية فقط وهي الموجودة في مقبرة الأوزيريون.
هل عبارات كتاب المقابر موجودة في مقبرة الأوزيريون فحسب؟
في الواقع، كل مقبرة مصرية قديمة تحتوي على بعض من تلك الكتابات.
على سبيل المثال، تم اكتشاف كتابات مشابهة في مقبرة رمسيس السادس، وقد قام بترجمة عباراتها الأثري الإيطالي الشهير "إيبيلتو روسيليني" عام 1836.
كما أن الأثري الفرنسي الأشهر جان فرانسوا شامبليون كتب أيضًا عن كتاب الكهوف.
و للأسف، لم يبد علماء المصريات اهتمامًا واضحًا أو كافيًا بكتاب المقابر حتى قرن من الزمان. ولكن الوضع تغير لاحقًا، ففي عام 1933، قام هنري فرانكفورت الأثري الهولندي بنشر أول ترجمة كاملة للكتاب بمساعدة أدريان دي باك. وبين عامي 1942 و1945، نشر ألكسندر بيانكوف ترجمة فرنسية للكتاب، تلاها ترجمة إلى الألمانية من قبل إريك هورنونغ عالم المصريات السويسري الشهير، الذي قام أيضًا بترجمة الكتاب من الألمانية إلى الإنجليزية.
و أحدث طبعات كتاب الكهوف أو الموتى هي تلك التي نشرها الباحث الألماني دانيال فير نينج، استنادًا إلى النص الجديد المطبوع.
هل كتاب المقابر أو الكهوف يمكن أن يعطينا فكرة عن واحدة من أهم رؤى المصري القديم، عما يعرف
بـ"الأرض والمحيط الأزلي"؟
أن المصريون القدماء نظروا إلى الكون نظرة شاملة، حيث اعتبروا أن الموت ليس سوى رحلة تكمل مسيرة الحياة.
اعتقدوا بوجود عالم آخر في باطن الأرض، أطلقوا عليه العالم "تحت- أرضي" الذي تصل إليه أرواح الموتى عن طريق المقبرة.
هذا الاعتقاد يفسر الأهمية الكبرى التي أولوها لمقابرهم، والتي تشهد بعظمة حضارتهم حتى اليوم.
المصريون القدماء اعتقدوا أن للأرض سطحًا باطنيًا سفليًا تضيئه الشمس حين ترتحل ليلاً، ولكن لا أحد يعرف موقع هذا السطح الباطني أو السفلي بالتحديد.
ربما كان موضعه في مياه الأزل "نون"
التي اكتسب منها الظلمة المرتبطة به.
وصف المصريون "نون" بأنها هاوية سحيقة ليس لها قاع، ومحيط لا نهائي من المياه وارتبطت بأسطورة الخلق كمصدر انبثق منه كل شيء.
كما اعتقدوا أن الأرض ترتبط فيزيائيًا بالمحيط الأزلي، وأن مياه الأزل هي الأصل الذي ينبع منه نهر النيل.
لكن كيف ارتبطت فكرة المحيط الأزلي بالفكر الديني المصري؟
في الفكر الديني المصري، ارتبطت "نون" بأسطورة الخلق، حيث اعتقد المصريون أن المحيط الأزلي هو الينبوع الذي انبثق منه كل شيء.
كما آمنوا بأن الأرض والمحيط الأزلي هما مركز الكون، وأن السماء انفصلت عن الأرض والمحيط الأزلي في الأزل.
هذه الأفكار تتضح من النصوص المصرية القديمة، مثل متون الأهرام ومتون التوابيت.
ان العالم الآخر احتل أهمية كبرى في الفكر الديني المصري القديم باعتباره الوجهة التي تقصدها الأرواح بعد الموت.
أطلق عليه قدماء المصريين العديد من الأسماء، وأهمها "دوات"، وهي كلمة تترجم عادة بمعنى العالم السفلي. هذا العالم كان يُعتبر مكانًا للرحلة الروحية للأرواح، حيث تمر بمراحل الحساب والمكافأة أو العقاب
مما يعكس الاعتقاد العميق بالحياة بعد الموت والرحلة الأبدية.
إن الأوزيريون ليس مجرد مكان للعبادة
بل هو مركز للمعرفة والفهم العميق للعالم الآخر في العقيدة المصرية القديمة.
لا تزال أسرار الأوزيريون في أبيدوس محجوبة عن الأنظار، كأنها صفحات من كتاب الزمن لم تُفتح بعد.
هذا المبنى الغامض، الذي يُعتقد أنه يحمل في طياته أسرار مصر القديمة وما قبل التاريخ، يظل شاهداً صامتاً على حكايات لم تُروَ بعد وألغاز لم تُحل.
ربما يحمل الأوزيريون في جدرانه ونقوشه مفاتيح لفهم أعمق لأحاجي الإنسانية وأسرار الكون، في انتظار من يجرؤ على كشف النقاب عنها أكثر واكثر.