اقرأ التفاصيل
recent
أخبار عاجلة

رحلة الشمس الليلية : أسطورة النور في قلب الظلام

رحلة الشمس الليلية : أسطورة النور في قلب الظلام





(كتاب الإيمي دوات)

كتبت - دكتوره ميرنا القاضي 

مرشده سياحية وباحثة في علم المصريات والشرق الأدنى 


في أعماق التاريخ، حيث تتشابك الأساطير مع الحقائق، وحيث تتجلى قوة الطبيعة في أبهى صورها، نجد أنفسنا أمام أحد أعظم أسرار الحضارة المصرية القديمة: رحلة الشمس عبر العالم الآخر.

 تخيلوا معي، شمسًا ذهبية تغرب في الأفق الغربي، لتبدأ رحلتها الليلية عبر بوابات العالم السفلي، محاطة بالآلهة والمخلوقات الأسطورية. 

في هذه الرحلة، تتحدى الشمس الظلام وتواجه الأفاعي المتوحشة، وتعيد تجديد نفسها لتعود مشرقة في الأفق الشرقي مع بزوغ الفجر.



هذا الكتاب، الإيمي دوات، ليس مجرد نص ديني، بل هو دليل روحي يعبر عن إيمان المصريين القدماء بالحياة بعد الموت وبقدرة الشمس على التجدد.

 إنه قصة ملحمية تتحدث عن الشجاعة الأمل والإيمان بقوة النور في مواجهة الظلام. 



دعونا نغوص معًا في صفحات هذا الكتاب العريق، ونكتشف أسرار العالم الآخر كما رآها المصريون القدماء، ونستشعر عظمة هذه الحضارة التي لا تزال تلهمنا حتى اليوم.



تعريف كتاب الإيمي دوات


كتاب الإيمي دوات imy-dwAt   المعروف ايضا باسم   "تا مجات ام دوات

أى (كتاب ما هو موجود فى العالم الآخر) 

أو مختصرة "ام - دوات" 

أو "الإيمي دوات"

هو نص ديني مهم في مصر القديمة. يُعرف أيضًا باسم “كتاب الحجرة الخفية التي تقف فيها أرواح الآلهة والظلال الخيرة”. 


هذا الكتاب كان يُسجل على جدران المقابر الملكية منذ بداية الأسرة الثامنة عشرة

 وكان يُعتبر الزخرفة الوحيدة لحجرات الدفن ، ويُعد أقدم كتب عصر الدولة الحديثة  وظهر فى ستة عشرة مقبرة ملكية

 بالإضافة لمقبرة الوزير "وسر آمون" من عهد الملكة "حتشبسوت".



 ظهر لأول مرة فى مقبرة الملك "تحتمس الأول" فى وادى الملوك ، وفى مقبرة الملكة "حتشبسوت" (KV 20) ، وإن كانت ترجع الخطوات الأولى لهذا الكتاب قبل ذلك بكثير  ثم ظهر الكتاب كاملاً فى حجرة الدفن بمقبرة الملك "تحتمس الثالث"  ومقبرة وزيره "وسر آمون"  ثم مقبرة "أمنحتب الثانى" الذى وضع ساعات الكتاب كاملة فى تتابع ، ووضع النسخة المختصرة في النهاية .



 سجلت الساعة الأولى منه فى مقبرة 

"توت عنخ آمون" ، بينما وضعت أجزاء من ساعتين آخرتين على واحدة من المقاصير الذهبية.

تم تسجيل الكتاب فى حجرة الدفن في مقبرة سيتى الأول  ومنذ عهد رمسيس الثالث والساعتين الرابعة والخامسة منه استمر تسجيلهما فى الدهليز الثالث  واستمر الكتاب حكراً على الملوك فقط  حيث لم يظهر خلال الأسرة الثامنة عشرة فى أية مقبرة فردية باستثناء مقبرة الوزير "وسر آمون" من عهد تحتمس الثالث  والذى كان ذو مكانة خاصة لدى الملك 

 مما كان له الأثر فى منحه الحق فى تسجيل هذا الكتاب داخل مقبرته ، واستمر الأمر حقاً ملكياً حتى الأسرة العشرين  ومع بداية الأسرة الحاديه والعشرين ووصول كهنة آمون فى طيبة للحكم ، فقد أخذوا هذا الحق  وسجلوا أجزاء من هذا الكتاب فى مقابرهم أو على توابيتهم.



والواضح أن كهنة الإله آمون قد لعبوا دوراً كبيراً في إعداد هذا الكتاب، ورغم أن هذا الإله قد صور بشكل إنسان له رأس كبش

 إلا أنه لم يذكر صراحة على أنه آمون، بل: "يوف"، أي: "الجسد" إشارةً إلى الشمس الغاربة، أي التي توفت وخرجت منها الروح.



لكن هل تساءلت يومًا عن الرحلة الليلية التي تقوم بها الشمس عبر العالم الآخر في الأساطير المصرية القديمة؟ كيف يمكن أن تكون هذه الرحلة مليئة بالأسرار والتحديات، وما هي الطبوغرافية الغامضة لهذا العالم الذي يتجاوز كل الأبعاد الأرضية؟


بوابات العالم الآخر في الثقافة المصرية القديمة تمثل مداخل إلى عالم غامض ومشوه، حيث كل شيء فيه أكبر وأعظم من مثيله في الحياة الدنيا. هذه البوابات ليست مجرد مداخل، بل هي نقاط عبور إلى عالم مليء بالأسرار والتحديات.


 طبوغرافية العالم الآخر

العالم الآخر يُعتبر صورة مشوهة للعالم الأرضي، حيث كل شيء فيه أكبر وأعظم. أبعاد هذا العالم تُقاس بالمقاييس المقدسة التي تتجاوز بكثير المقاييس الملكية. على سبيل المثال، طول المنطقة العازلة المؤدية إلى العالم الآخر الحقيقي أكبر من طول وادي النيل حتى ما تحت الشلال الثاني.



 الزمن في العالم الآخر

الزمن في العالم الآخر له أبعاد مختلفة تمامًا. الساعة الواحدة في الرحلة الليلية تعادل عمرًا كاملًا على الأرض. 

في هذا العالم، تكون كل الأشياء معكوسة

 حيث تسير الشمس والكائنات معكوسة لتعود للظهور في الأفق الشرقي. حتى الثعبان الضخم الذي يعيد الميلاد يسير من الذيل إلى الفم، مما يؤدي إلى تحول الكائنات من كبار إلى أطفال صغار.



 الانعكاسات في العالم الآخر

النصوص الجنازية القديمة تشير إلى أن الشخص في هذا العالم قد يضطر إلى المشي فوق رأسه أو أكل فضلاته، وعملية الهضم تكون مقلوبة أيضًا. النصوص والتصاوير تشير إلى المياه المقلوبة 

أو المعكوسة في طبيعة مملكة الموتى. 



حتى الاتجاه المعتاد للكتابة الهيروغليفية قد يكون معكوسًا، حيث يجب قراءة فقرات كاملة من كتب العالم الآخر بطريقة معكوسة.


بوابات العالم الآخر

كل بوابة في العالم الآخر تحرسها آلهة قوية، ويجب على الأرواح معرفة هذه الآلهة والنصوص المقدسة للعبور. هذه البوابات تمثل تحديات يجب على الأرواح التغلب عليها للوصول إلى النور في نهاية الرحلة.



 لكن  لماذا كانت الشمس مقدسة في حضارات العالم القديم وكيف رآها القدماء؟


 رحلة الشمس كانت رمزًا قويًا في العديد من الثقافات عبر التاريخ، ولكل منها تفسيرها الخاص ومعانيها الفريدة.

 إليك نظرة على كيفية تغير معنى رحلة الشمس عبر بعض الثقافات المختلفة.


 مصر القديمة

في مصر القديمة، كانت الشمس تُعبد كرمز للحياة والطاقة والقوة. 

كان الإله رع هو إله الشمس الرئيسي، وكان يُعتقد أنه يخوض رحلة يومية عبر السماء

 ثم ينزل إلى العالم السفلي ليلاً ليقاتل قوى الفوضى والشر، ممثلة في الأفعى أبوفيس، ليعود ويظهر من جديد في الصباح.



 حضارة الأزتك

في حضارة الأزتك، كانت الشمس تُعتبر إلهًا قويًا يحتاج إلى القوة والطاقة ليستمر في رحلته عبر السماء. 

لذلك، كانوا يقدمون القرابين البشرية لإله الشمس، معتقدين أن هذه التضحيات ضرورية للحفاظ على دورة الشمس وحمايتها من الظلام.


 اليونان القديمة

في اليونان القديمة، كان الإله هيليوس هو الذي يقود عربة الشمس عبر السماء كل يوم. كان يُعتقد أن هيليوس يراقب كل شيء من عرشه في السماء، وكان يُعتبر رمزًا للنور والمعرفة.


الصين القديمة

في الصين القديمة، كانت هناك أسطورة تقول إن هناك عشر شموس كانت تظهر في السماء في وقت واحد، مما جعل الأرض تحترق. لذلك، قام الإمبراطور بإطلاق سهم لقتل تسع منها، تاركًا شمسًا واحدة فقط لتضيء العالم.


 حضارات أخرى

الشمس كانت تُعبد أيضًا في حضارات أخرى مثل حضارة المايا والإنكا، حيث كانت تُعتبر مصدر الحياة والنمو. 

في هذه الثقافات، كانت الشمس تُعتبر إلهًا قويًا يحتاج إلى الاحترام والتقدير لضمان استمرار الحياة والنمو الزراعي.

أن تقديس الشمس كان يعكس فهم الإنسان القديم لدورها الحيوي في الحياة اليومية، من الزراعة إلى الضوء والدفء مما جعلها محورًا للعديد من الطقوس الدينية والأساطير.


وصف الساعات 

وفي قلب الظلام، حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والخيال، تبدأ الشمس رحلتها الليلية. مركب الإله رع يشق طريقه عبر بوابات العالم الآخر، كل بوابة تحرسها آلهة قوية، وكل ساعة تحمل في طياتها تحديات وأسرارًا جديدة. في هذه الرحلة

 لا تكون الشمس مجرد مصدر للضوء، بل رمزًا للأمل والتجدد.


  يحكي الأمي دوات عن دورة الشمس اثناء ساعات الليل الاثني عشر فهو مقسم ۱۲ جزء كل جزء يمثل ساعة من ساعات الليل.


تبدأ دورة الشمس في العالم الأخر في مركب الإله رع بعبور البوابات ولكل بوابة إله يجب على المتوفي معرفة جميع الآلهة كما يجب عليه معرفة جميع الاشكال 

و النصوص حول "المنزل الخفي" الذي هو منزل أوزير (أو قبره) في العالم الآخر والذي شيده له ابنه "حور" لكي يكون مقره الأبدي. وقد زينت جدران هذا المنزل بمناظر تحدد مسار الشمس خلال ساعات العالم السفلي الاثنتي عشرة في محاولة من حور لإرشاد والده أوزير إلى خبايا هذا العالم.



وترتبط كل ساعة من ساعات كتاب ما في العالم السفلي باتجاه جغرافي معين فالساعات الأولي والثانية والثالثة والرابعة مسجلة على الجدار الغربي للمنزل الخفي والخامسة والسادسة على الجدار الجنوبي

والسابعة والثامنة على الجدار الشمالي والساعات من التاسع إلى الثانية عشرة مسجلة على الجدار الشرقي.

  كما يلقى المتوفي عوائق مختلفة أثناء الرحلة وعليه أن يتخطاها جميعا.



الساعة الأولى

تدخل مركب الاله "رع" الشمس في الافق الغربي  ، حيث تبدأ رحلتها عبر "الأخت" البوابة التي تفصل بين النهار والليل الغسق بعد أن غابت أشعة الشمس. هنا، تبدأ الأرواح في مواجهة الظلام، مستعدة للعبور إلى العالم الآخر.





الساعة الثانية والثالثة

تعبر المركب بحرًا كبيرًا، حيث تواجه الأرواح مخلوقات غريبة 

وترتبط الساعتان الثانية والثالثة ايضا  بالإله أوزير باعتباره إمام الموتى الذين يستقرون في الغرب. وتعتبر الساعة الثالثة مسكن الإله أوزير وتعرف هذه الساعة باسم "التي تقطع الأرواح".




الساعة الرابعة

تصل المركب إلى ساحل رملي، حيث تلتقي بالإله سوكر، صقر العالم السفلي.

 جحيم الإله سوكر (إله الجبانة)

 وتسمى هذه الساعة (ذات القوة العظيمة). هنا، تبدأ الأرواح في مواجهة اختبارات أكثر صعوبة، حيث يجب عليها إثبات قوتها وشجاعتها.






الساعة الخامسة

تصل المركب إلى مقبرة أوزوريس، حيث تُوقد بركة من النار تحتها. يغطي المقبرة هرم، وتظهر الإلهتين إيزيس ونفتيس في هيئة حدأتين، تحميان المقبرة وتساعدان الأرواح في رحلتها.




الساعة السادسة

تُعتبر هذه الساعة الأهم، حيث تتوحد "البا روح الاله رع  مع جسده في دائرة تشكلها الحية أحن. في هذه اللحظة، تستعيد الشمس كيانها وتستعد للعودة إلى الحياة رمزًا للتجدد والانبعاث.



الساعة السابعة

تقابل المركب أفعى متوحشة تُدعى أبوفيس، وهي واحدة من أكبر التحديات التي تواجه الأرواح في رحلتها. هنا، تتجلى قوة الشمس في قدرتها على التغلب على الظلام والفوضى.






الساعة الثامنة

فتعرف باسم "سيدة الظلام"، وهي الساعة التي تبدو فيها الآلهة وكأنها مومياوات تصحبها اللفائف والتوابيت. 

كما يُفتح باب المقبرة، مما يسمح للأرواح بالمرور إلى المرحلة التاليةمن الرحلة. 

في هذه اللحظة، تبدأ الأرواح في رؤية النور في نهاية النفق، مستعدة للعودة إلى الحياة.



الساعة التاسعة

في هذه الساعة، تبدأ الشمس في الاقتراب من نهاية رحلتها الليلية.

و يترك المتوفى الساحل الرملي

 ( المذكورفي الساعة الرابعة )

  ويعود إلى المياه. 

المركب يمر عبر مناطق مليئة بالأرواح التي تنتظر الحكم. 

هنا، تتجلى قوة الشمس في قدرتها على إضاءة الطريق للأرواح وتوجيهها نحو النور.


الساعة العاشرة

تستمر الشمس في رحلتها عبر العالم السفلي، حيث تواجه الأرواح المزيد من التحديات. 

في هذه الساعة، تمر المركب عبر بوابات محمية بآلهة قوية، ويجب على الأرواح أن تثبت جدارتها ومعرفتها بالنصوص المقدسة لتتمكن من العبور.



الساعة الحادية عشرة

تقترب الشمس من نهاية رحلتها الليلية وتبدأ في الصعود نحو الأفق الشرقي.

 في هذه الساعة، تتجلى قوة الشمس في قدرتها على التغلب على الظلام والفوضى وتبدأ الأرواح في رؤية النور في نهاية النفق.




الساعة الثانية عشرة

في هذه الساعة الأخيرة، تصل الشمس

 إلى الأفق الشرقي، حيث  تستعيد عين الإله رؤيتها (دلالة على صحته و سلامته وعودة نشأته من جديد و يدخل في الأفق الشرقي ليكون مستعدة للشروق في الصباح ، حيث يبدأ إله الشمس في الصباح الباكر "خبري" في الظهور.


 و بدأ يوم جديد ، هذه اللحظة تمثل الانبعاث والتجدد، حيث تعود الشمس لتضيء العالم من جديد، رمزًا للأمل والحياة الجديدة.



هذه الرحلة الليلية ليست مجرد قصة، بل هي تعبير عن إيمان المصريين القدماء بقوة النور في مواجهة الظلام، وبقدرة الحياة على التجدد والانبعاث من جديد.


 إنها قصة ملحمية  تواصل حلقات الزمن من خلال البعث اليومي للشمس وتحقيق الأبدية المنشودة حيث أن السموات والأرض والعالم الآخر تتلاقى جميعها في أعماق العالم السحيق التي يتعين على رب الشمس أن ينزل إليها ليُحقق التجدد اليومي الزمني والبعث للحياة على الأرض.

google-playkhamsatmostaqltradent