الكاتبة منال خليل .. تكتب لم يرفع القلم بعد "بديعة والعباءة السمراء"
لم يرفع القلم بعد " بديعة والعباءة السمراء "
بقلم : الكاتبة منال خليل
- في حيٍّ قديم، كان ينام تحت ثقل الزمن وينبض بحكايات أهله
ظهرت " بديعة " في أواخر شتاءٍ قاسٍ كأنها نسمة دافئة هبّت على الحي فجأة. كانت تدفع عربة خشبية مزركشة، تملؤها بالبليلة الساخنة، والكسكسي بالقشدة البلدي، ورائحة الزمن الجميل تملأ الجو أينما مرت.
بديعة لم تكن مجرد بائعة تجوب الحي، بل كانت لغزًا يمشي على قدمين، تُغلفه عباءة سمراء تخفي تحتها أسرارًا قديمة تثير فضول الرجال ولا تخفت نيرانها.
- كان يمشي إلى جانبها " محمد " ابنها ذو السبع سنوات، بجلابية مخططة نظيفه كأنه ظلها الصغير.
لم يكن الحي قد شهد من قبل امرأة مثل بديعة؛ بجسدها الملفوف بعناية، وخطواتها التي تدق الأرصفة بخفة، كأنها لا تسير، بل تطوف بين نظرات المارة. العباءة السمراء التي كانت ترتديها، تلك التي تخفي تفاصيل جسدها، كانت كالستار الذي يجعل الجميع يتساءل عن ما تحويه خلفها. تارةً ترتديها ضيقة، كأنها تلمح لما لا يُقال، وتارة أخرى تغلقها بالكامل، وكأنها تغلق الباب أمام الخيال، لكن في كل الأحوال كانت تترك دائمًا نافذة صغيرة للفضول.
في الصباح، كانت بديعة تخرج بجلابية ملونة بالأزهار، كأنها لوحة فنية متحركة.
كانت تلك الجلابية تخفي تحتها جسدًا لا يظهر منه سوى القليل، لكنه كان كافيًا ليشعل خيالات الرجال. كاحلها كان يزينه خلخال فضي، وكعب محني بدم الغزال والشبشب القصير المذهب الذي ترتديه يجعل خطواتها تنبض بالأنوثة ، شعرها الأحمر المجعد الطويل، الذي لم يكن يظهر منه سوى خصلات، كان ملفوفًا في منديل مزركش بالورود الصغيرة، يزيد وجهها القمحي إشراقًا.
الرجال في الحي لم يكونوا قادرين على مقاومة تلك الأنوثة المتسللة بهدوء، ولا النساء كنّ قادرات على إخفاء غيرتهن. لكن بديعة لم تكن تبالي، كانت تمشي كمن يعرف أنه ليس بحاجة إلى الكلام ليُحدث تأثيرًا. أما القهوة المقابلة لعربتها، فقد امتلأت بالزبائن. لم يأتوا لأجل البليلة أو الكسكسي فقط، بل لأجل تلك الابتسامة الخاطفة التي قد تمنحها بديعة في لحظة عابرة، أو تلك النظرة الحادة التي يحيطها كحل أسود، تترك في القلب أثرًا لا يُمحى.
كان الحي يفور بالحكايات عن بديعة الجميع كان يريد الاقتراب منها، لكن بديعة كانت دائمًا على مسافة، تجعل كل رجل يشعر وكأنه قريب من امتلاكها، لكنه لا يستطيع الوصول.
هذا المزيج بشخصيتها جعلها لغزًا يُلهب خيالهم. البعض عرض الزواج عليها والبعض اكتفى بالنظر إليها من بعيد، يحلم بتلك الابتسامة التي لم تُهدَ له.
ومع مرور الأيام، أضافت بديعة طاولة وكرسيين بجوار عربتها، وكأنها تفتح بابًا جديدًا لمن يريد الجلوس والتأمل في عالمها. كان محمد يجلس بجانبها، يساعدها في تقديم الأطباق، وعيونه الصغيرة تراقب كل ما يحدث حوله. رغم صغر سنة
كان يشعر بشيء غريب في نظرات الرجال الذين يجلسون حول والدته. لم يكن يفهم بعد، لكنه كان يشعر بالفضول والخوف في آن واحد.
- ليالٍ طويلة، كانت بديعة تجلس في بيتها القديم، على الكنبة الوحيدة المهترئة بجوار النافذة التي تطل على الحارة، تنظر إلى العباءة السوداء المعلقة على حبال الغسيل.
كانت تحاول أن تفهم سرّ تلك النظرات التي تلاحقها كل يوم.
هل هي العباءة نفسها؟
تساءلت أم هو الغموض الذي تخلقه تلك القطعة السوداء من القماش؟
كانت تعلم أن هناك نساء أخريات في الحي يرتدين عباءات، لكن لم يكن لهن نفس التأثير.
العباءة السمراء لم تكن مجرد ثوب، كانت أشبه بشبكة غامضة تصطاد خيالات الرجال. كانت ترتديها أحيانًا ضيقة، تلمح بجرأة إلى ما تحتها، وأحيانًا أخرى تتركها مغلقة تمامًا، لتجعل الجميع يتساءل عما تخفيه.
كان كل رجل يراها يرى شيئًا مختلفًا بالنسبة للبعض، كانت رمزًا للغموض الذي لا يمكن امتلاكه، وبالنسبة لآخرين، كانت وعدًا بشيء لم يتحقق بعد.
- في إحدى الليالي، حين كان القمر في أوج كماله، استيقظ الحي ليجد أن بديعة اختفت. عربة البليلة لم تكن في مكانها المعتاد، ولم يرها أحد في الأزقة.
جلس الرجال على القهوة، عيونهم تبحث عن عباءتها السمراء ، لكن دون جدوى.
غادرت بديعة تركت وراءها فراغًا كبيرًا كما لو أن جزءًا من الحي قد اختفى معها.
لم يعرف أحد إلى أين ذهبت، أو ما حدث لها.
اختفت بديعة، لكنها لم تختف من عقول الرجال. بقيت عباءتها السمراء كرمز غامض في أحلامهم. تلك العباءة التي كانت تعني لهم الكثير، أكثر من مجرد قطعة قماش كانت تجسد الوهم، والجاذبية، والرغبة في امتلاك ما لا يُملك.
لم يكن سر بديعة في جمالها فقط، بل في قدرتها على إبقاء الجميع في حالة من التوق المستمر. كانت المرأة التي لا يمكن للرجال الوصول إليها، والمرأة التي لم يُكشف سرها حتى النهاية. اختفاؤها لم يُطفئ النار التي أشعلتها، بل ترك خلفها حيرة لا نهاية لها.
في النهاية، أدرك الرجال أن ما كانوا يبحثون عنه لم يكن بديعة نفسها، بل الغموض الذي جسدته. ربما كان الجمال مجرد واجهة، أما الحقيقة فهي أن الإنسان
وخاصة الرجل، ينجذب دائمًا إلى ما لا يمكنه الوصول إليه. بديعة كانت الوعد الذي لم يتحقق، واللغز الذي لا حل له تاركة خلفها عباءتها السمراء ترفرف في ذاكرة الحي، كما ترفرف الأحلام في عقول من لا يرضى بما يملكه.