شِعرٌ متبّل
بقلم : الشاعرة التونسية الثريا بن مسعود خلوط
أنا والشارع والحقيبة نسير
مِن التّمثال العائدِ بعد الاغترابِ
إلى القوْسِ الحجريِّ
الذي لم يُسْمح له باغماضِ دَفَّتَيهِ
منذ دهرٍ و نَيْفٍ
تلك مسافةُ حنينٍ أدمى حذاءها
جوازُ سفرٍ مبتورِ الأقدام
فكيف السبيلُ وكيف الذهابُ
إلى الهناك
تلك مسافةٌ مُلَغَّمة
ابتسامةٌ صفراءُ موقوتةٌ
والذِّمَمُ كَحِرباءَ تَتلوّنُ
حسبَ أمكنةِ الظروف المناسبةِ
القلمُ هنا يَعُدًُ على المكان أنفاسَه
يُؤرّخُ وشوشةَ حُبٍّ
كَم عرسا مَرًَ من هنا
أو كم جنازةً قُبِرَت
في قلوبِ المارّةِ دون كَفَنٍ
كم مِن جسدٍ تركَ ظِلّه عندَ التمثال
حين جُنَّ الليلُ على حين غفلةٍ
يَحُكُّ القلمّ رأسَ ورقتِهِ مُفكّرا
تُرى بعد هطول الامطار الأخيرة
كم مِن عقب سيجارةٍ سَيَنبُتُ
على حافّةِ المقاهي حشيشا
يا لَكَمٌّ الكراسي التي أخطأت
عنوان الطاولة المناسبة
وعدد الفناجين الهاربة
من الأفواه الكريهةِ
تنتَحِرّ دون مُقدّمات
صرخةٌ
إذْ بالاسفَلتِ يَتَأوَّهُ
أوجاعَ الماريين على جراحِهِ المُهمَلة
أنا والشارع والحقيبة
مازلنا نمضي في مجاز المكان
و الوِجهَةُ مُغَيّبةً
ارتعاشةٌ أرعَدَت أوصال
بوصلةٍ بُتِرَ سِنُّها
حين قَضَمَت قِطعةَ ٱتّجاهِ
صَلبةٍ و فاسدَةٍ مِن كعكةِ الحقيقة
هذا الخيال الذي يَتَلَبَّسُني
هو أداتيَ الوحيدةِ لرسم الحرف
وهذه الأناملُ دواتي لتلوين القصيدة
رأيت نصي يَمزِجُ الألوان
يَبحثُ عن أزرق صَافٍ جديدٍ
ليُلَوًنَ به سماءَ الشِّعرِ
يمحو خطواتِ العالقين في الوحل
بين ثنايا و مَطبّاتِ القصيدة
هناك في ركنِ الورقة
يَرسُمُ في بطون الأطفالِ شبعا
يَطلي أطرافَ أحلامِهم الباردة
بدِفءٍ لذيذٍ
رأيٍتُ نصّي
يقف على خشبة المسرح البلديّ
ليت صوتي يتصنع إلقاءً مُمَسرَحا
و بعضا مِنَ الكذب
لِيُوهِمً المُتَلقّي بأنّ النّص يَنضَحُ سعادةً
لكنّ جُرحَه لم يَقْوَ على الاندِمال
ظَلّ يتأوّهُ
كإسفَلتِ الطريق أوجاعَه
رأَيتُ نَصًي يُناثِرُكُم الدُّرَّ
يُحاوِرُكُم بحُسن الكلام
رغم آهاته الحبيسة
صَدَدتُموه و الرِّسالةُ كانت مُشَفَّرَةً
كَتَبها قلمٌ مُتَهكِّمٌ لَعوبٌ
هناك طفل داخلي فَكَّ ألغازها
بِالداخِلِ جنباتٌ تَحتَضِر
أنا و الشارع و الحقيبة
نَشُقّّ رداءَ طريق العَوٍدِ
على رصيفِ القصيدة المقابل
بائعٌ مُتَهَكِّمٌ يَعُدُّ أوهاما
حارّةَ المذاقِ ، يَرُشُّ قَبْصةَ نِفاقٍ
فتُحبَكُ الطبخةُ
هو ذا يَلتقطُ ديوانا مَنسِيّا
يقطع ما تيسًَرَ مِن صفحات يُقرطِسها
يَبيعُ لسكارى ليلٍ ما
شِعرا مُتبّلا بالكمون
أهُشُّ أفكارَ الشّارِعِ السّائبةِ
أحُثُّ خطواتِ الحقيبةِ ثُم نمضي
مع الذهول.