اقرأ التفاصيل
recent
أخبار عاجلة

لغز الإله المجهول: بعل.. إله العواصف والخصوبة في تدمر بين الأساطير والنقوش

 لغز الإله المجهول: بعل.. إله العواصف والخصوبة في تدمر بين الأساطير والنقوش





كتب - دكتورة ميرنا القاضي

 باحثة في علم المصريات والشرق الادني 


منذ آلاف السنين، كانت الآلهة تمثل القوى الغامضة التي تتحكم في العالم

 و"بعل" كان واحداً من تلك الشخصيات الإلهية التي أثيرت حولها العديد من التكهنات والأسئلة. 

على الرغم من ذكره في النصوص القديمة وسجلات الآثار والقرآن الكريم، ظل الغموض يحيط بجذور هذا الإله وهويته. 


هل كان ينتمي إلى حضارة ما بين النهرين؟ أم إلى أرض كنعان؟ 

أم ربما إلى مملكة تدمر العريقة؟


لكن وبفضل الدراسات الحديثة التي قامت بها الباحثة البولندية ألكساندرا كوبيك شنايدر، بدأ اللغز يتلاشى شيئًا فشيئًا مع اكتشاف نقوش تدمريّة أثبتت ارتباط "بعل" بتاريخ قديم ومعقد يتقاطع مع أساطير بلاد ما بين النهرين.


لطالما حير الإله "بعل" الباحثين والمؤرخين، فقد كانت عبادته واسعة الانتشار في منطقة الشرق الأدنى

 لكن جذوره الحقيقية وهويته تعددت التفسيرات حولها. 

بين حضارة ما بين النهرين وأرض كنعان وحتى مملكة تدمر ظل "بعل" لغزًا تاريخيًا غامضًا.


أشارت النقوش الآرامية المكتشفة في مدينة تدمر إلى الإله المجهول، الذي وُصف بعبارة "هو الذي يُبارك اسمه إلى الأبد". 

تعود هذه النقوش إلى ما يقرب من 2000 عام، وقد قادت الباحثة ألكساندرا كوبيك شنايدر إلى اكتشاف أن هذا الإله ليس فردًا واحدًا، بل هو مجموعة من الآلهة المدمجة

 أشهرها بعل شمين وبيل مردوخ.


 اسطورة صراع بعل وموت ملحمة الخصوبة والجفاف


في الأسطورة الأوغاريتية، كان بعل رب الأرباب وسيد القدر، إله الخصب والنماء والنبع. وقد ارتبط اسمه بالعديد من الآلهة مثل جوبيتر الروماني، ومردوخ البابلي وزيوس اليوناني. 

ومع ذلك، فإن ما يميز بعل في تدمر هو تصويره كفتي شاب، خلافًا للتصورات التقليدية التي تظهره كرجل ملتحٍ. هذا الأمر الفريد يظهر بشكل واضح في فن تدمر، وهو دليل على التحولات الثقافية التي مرت بها المدينة.


أسطورة بعل في أوغاريت تحكي عن صراع بعل، إله المطر والخصوبة، مع الإله موت، إله الجفاف والموت.

 بعد أن استقر بعل على عرشه، بدأ موت في التآمر ضده ، مطالبًا بالسيطرة على الآلهة والبشر. 

يرسل بعل رسولين للتفاوض مع موت دون نجاح، ويُرسل التنين "لوتان" لمواجهة بعل

الذي ينتصر عليه.


يغضب موت ويطلب نزالاً مباشرًا مع بعل. 

يقبل بعل التحدي ويذهب إلى العالم السفلي، حيث يهزمه موت ويترك جثته على الأرض. 

تحزن الآلهة وخاصة عناة زوجة بعل فتواجه موت وتنتقم منه. 

في النهاية، يتنبأ الإله إيل بعودة بعل، ويستمر الصراع بين بعل وموت كل سبع سنوات، مجسدًا دورة الطبيعة بين الجفاف والخصوبة.





تعتبر هذه الأسطورة رمزًا لدورة الطبيعة حيث تتجدد الحياة بعد الموت والجفاف بفضل الأمطار والخصوبة.



بعل إله المحارب والخصوبة


بالنسبة للكنعانيين، كان بعل إله الحرب

 وتم تصويره غالبًا كإله مسلح. 

عندما انتقل الكنعانيون إلى شمال أفريقيا

 استمروا في عبادة بعل ولكن تحت اسم "بعل هامون". 

أما في تدمر، فقد احتفظ بعل بمكانته كإله الخصوبة والزوابع وهي عناصر أساسية في حياة شعوب الشرق الأدنى القديم.


ذُكر اسم بعل في العديد من الكتب الدينية

بما في ذلك التوراة والقرآن الكريم، حيث ورد في سورة الصافات: 

"أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ". 

ويظهر ذكره في التوراة في عدة مناسبات

 فقد ورد كإله منافس ليهوه (الرب) في عدة نصوص، خاصة في سفر القضاة وسفر الملوك. كان بعل إلهًا رئيسيًا عند الفينيقيين، حيث ورد أن الشعب العبراني في بعض الفترات تماهى مع عبادته. 

على سبيل المثال، في سفر القضاة (2:13) يقول: 

"وترَكوا الرَّبَّ وعَبَدوا بَعل وعَشتاروت". 

ومع ذلك، كانت عبادة بعل تُعتبر خيانة لعهد الله عند العبرانيين، وهو ما دفع الأنبياء مثل إيليا لمحاربة هذه العبادة. 

في سفر الملوك الأول (18:21-40)، تحدى إيليا أنبياء بعل على جبل الكرمل لإثبات من هو الإله الحقيقي، وانتهت المواجهة بإظهار قوة يهوه وانتصار عبادة الرب.


بعل في القرآن الكريم


ورد اسم بعل في القرآن الكريم في سورة الصافات:

"أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ" (الصافات: 125).

هذه الآية وردت في سياق حكاية النبي إلياس (إيليا)، الذي دعا قومه لعبادة الله وترك عبادة بعل. 

وفقًا للتفاسير الإسلامية كان قوم إلياس قد ابتعدوا عن عبادة الله وعبدوا بعل وهو ما دفع إلياس إلى توجيههم لعبادة الله الواحد، والتخلي عن الإله الزائف.

 يجسد ذكر بعل في القرآن معركة بين التوحيد والشرك، وهي معركة دينية وفكرية مستمرة بين عبادة إله واحد وآلهة متعددة في تاريخ الشرق الأدنى.


بعل في التاريخ العربي القديم


في تاريخ العرب قبل الإسلام، ورد ذكر بعل كأحد الآلهة المهمة في المنطقة، وخاصة في الدول المجاورة للجزيرة العربية مثل بلاد الشام. 

كان بعل معبوداً رئيسياً للفينيقيين، وتم نقل عبادته من كنعان إلى مستعمراتهم

 مثل قرطاج في شمال إفريقيا حيث عُرف باسم "بعل هامون". 

وكان الفينيقيون يعتبرون بعل إلهًا للخصوبة والزراعة، وكان يتم تقديم الأضاحي البشرية في بعض الأحيان إرضاءً له.


بالنسبة للعرب الجاهليين، لم تكن عبادة بعل واسعة الانتشار كما في بلاد الشام

 لكن تأثيرها لم يكن غائبًا تمامًا. 

كانت المنطقة مليئة بالتأثيرات الدينية المتنوعة، بما في ذلك عبادة "اللات" و"العزى" و"مناة" وهي آلهة عربية أنثوية شهيرة، وكان يُعتقد أن "اللات" قد تكون شريكة بعل في معبد تدمر.


بعل في النصوص المصرية


ليس هناك دليل قاطع على أن بعل كان معبودًا رئيسيًا في مصر الفرعونية، ولكن هناك بعض الإشارات التي تدل على أن المصريين القدماء كانوا على دراية بعبادة بعل بسبب العلاقات التجارية والعسكرية مع شعوب الشرق الأدنى القديم، خاصة الكنعانيين والفينيقيين.


 كانت مصر على تواصل مستمر مع شعوب كنعان وبلاد الشام عمومًا، سواء من خلال التجارة أو الحملات العسكرية. 

بعض هذه الشعوب كانت تعبد بعل كإله رئيسي، وهو ما قد يفسر تأثر المصريين بهذا الإله وظهوره في بعض النصوص المصرية. يُعتقد أن بعل قد دخل إلى مصر خلال حكم الهكسوس (الذين حكموا مصر في الفترة من 1650 إلى 1550 ق.م) حيث تبنى المصريون بعض العناصر الدينية الخاصة بشعوب الهلال الخصيب.


يظهر "بعل" كإله محارب، ويبدو أنه تم ربطه بالإله المصري "ست" إله العواصف والفوضى. 

هذه العلاقة نابعة من الصفات المشتركة بين بعل وست كآلهة للعواصف والقوى الطبيعية العنيفة.

 يشار إلى أن الفينيقيين والكنعانيين كانوا يعظمون بعل كإله للزوابع والخصوبة، وهي صفات كان المصريون يرونها مشابهة لإلههم ست. 

في بعض الأحيان، ظهر بعل كحليف أو نظير للإله ست، خصوصًا خلال الفترة التي حكم فيها الهكسوس مصر.


وجوده في النصوص الهيروغليفية

ذُكر بعل في بعض النقوش المصرية وكان يُشار إليه بالاسم "بارا" أو "بار". 

يُعتقد أن هذا اللفظ هو تقريب مصري لاسم بعل، خاصة في الفترة التي تواصلت فيها مصر مع شعوب كنعان وبلاد ما بين النهرين. 

وقد عُرف بعل بأنه إله العواصف والرعد وكان يُعبد كإله رئيسي في المناطق الفينيقية والكنعانية.


بعل لم يكن جزءًا من البانثيون الديني الرسمي في مصر الفرعونية، لكنه ترك أثرًا محدودًا من خلال الاتصالات بين الحضارات.

 كما أن التأثيرات الثقافية والدينية لشعوب بلاد الشام كان لها انعكاس على مصر، خاصة في فترة الهكسوس الذين استقروا في شمال مصر وجلبوا معهم بعض آلهتهم ومعتقداتهم، ومنها بعل.


خلاصة القول، بعل لم يكن إلهًا رئيسيًا في مصر القديمة، لكنه كان معروفًا كإله للخصوبة والحرب والعواصف، خاصة في ظل التفاعلات بين مصر والشرق الأدنى القديم.



الإله بعل في تدمر عبادة متعددة الأوجه


في مدينة تدمر، كان الإله الرئيسي للآراميين هو "بول" الذي سرعان ما تم دمجه مع الإله البابلي "بيل مردوخ"

 مما يظهر التأثيرات الثقافية العميقة بين الحضارات.

 تم بناء معبد بعل في الحي الشمالي من تدمر عام 32 م، وأصبح مركزًا دينيًا هامًا يضم عدة آلهة، بما في ذلك يرحيبول، رب الشمس، وعجلبول، رب القمر. 

هذه المعبد لم يكن مجرد بناء معماري، بل رمز لتداخل الأديان والتأثيرات الثقافية بين شعوب الشرق الأدنى.


ورغم أن المعبد كان مركزًا لعبادة بعل، إلا أن بعض الأدلة تشير إلى أن الآلهة الأنثوية كانت لها مكانة أيضاً، حيث قد تكون "اللات" ربة الحرب العربية، شريكة لبعل في هذا المعبد.

 ومع ذلك، لا تزال الآراء منقسمة حول هوية تمثال الأنثى الذي عُثر عليه في المعبد.


تدمر المدينة المتعددة الثقافات


تقع تدمر في وسط البادية السورية وتُعرف باسم "شجرة النخيل". 

كانت المدينة تقع على مفترق طرق تجاري استراتيجي يربط بين البحر المتوسط ونهر الفرات، مما جعلها مركزًا تجاريًا وثقافيًا هامًا.(طريق الحرير) خلال حكم الرومان استغلت تدمر ثرواتها لبناء مشاريع ضخمة مثل الرواق العظيم ومعبد بيل.


أما من الناحية الفنية، فقد دمجت تدمر بين أساليب الفن اليوناني والروماني مع التأثيرات المحلية والفارسية، مما جعلها واحدة من أهم مراكز الثقافة في العالم القديم. 

اللغة الآرامية كانت اللغة السائدة في تدمر، وهي نفسها التي كُتبت بها النقوش التي ساعدت على فك لغز بعل.



"بعل" لم يكن مجرد إله في أساطير الشرق الأدنى القديم، بل كان رمزًا للخصوبة والسيادة. 

من خلال اكتشافات تدمر والنقوش الآرامية، بدأ الغموض الذي كان يحيط به يتبدد، مما سمح لنا بفهم أعمق للتاريخ الديني لهذه المنطقة الغنية بالتراث الثقافي والديني، مع امتداد عبادة بعل من الفينيقيين والكنعانيين إلى اليهود والعرب ودخوله في نصوص القرآن والتوراة كمحور للصراع بين التوحيد والشرك.

google-playkhamsatmostaqltradent