الرعاية الصحية للعمال سر إبداعهم في بناء الأهرامات والمعابد
كتب د. عبد الرحيم ريحان
مازالت الحضارة المصرية القديمة تكشف عن أسرارها يومًا وراء يوم من خلال الاكتشافات والدراسات الأثرية التى تناولت حرفة البناء وما يتعرض له أصحابها ومن يعاونهم بخطر الإصابات والأمراض بسبب بيئة العمل الغير صحية مثل العمل في المحاجر وما تقتضيه هذه الحرفة من قطع وتكسير للأحجار ومن ثم استنشاق الغبار المدمر للجهاز التنفسي وأغشية العين أو استخدام بعض الأدوات الحادة في أثناء عملهم أو السقوط من السقالات، ومن هذا المنطلق كانت الدراسة الجديدة للباحثة الآثارية رنا التونسى عن الرعاية الصحية لعمال البناء فى مصر القديمة
تشير الباحثة الآثارية رنا التونسى إلى اهتمام الحكومة في مصر القديمة برعاية العاملين صحيًا، بهدف توفير التوازن البدني والنفسي للعامل وحمايته من كل الأمراض والأخطار التي قد تؤثر على أدائه وإنتاجه ووفرت الظروف المناسبة له من أجل إتمام عمله بنجاح فعملت على تحقيق ذلك بعدة وسائل، فعلى سبيل المثال خصصت أماكن لعلاج ضحايا حوادث العمل المفاجئة داخل المدن العمالية وكان بها أطباء ومساعدى أطباء للتدخل السريع.
وكان يتم تعيين طبيب في مناطق تجمع العاملين ومواقع العمل للتدخل في الوقت المناسب في حالات الإصابات المعتادة أو حالات السموم الناجمة عن لدغ الثعابين والعقارب، واحتوي التصنيف الإداري للأطباء في مصر القديمة على فئات مختلفة منها فئة (أطباء المجموعات)؛ وهم فئة مخصصة لتقديم الرعاية الصحية لمجموعة محددة من الأفراد الذين يعيشون في مجتمع محدد ومقيد (المدن العمالية)، كما أن مجموعات العمال اللذين يعملون في المشروعات العمرانية الكبرى أو يعملون بالتحجير ويرسلون إلى المحاجر والمناجم في سيناء وغيرها لم يكن يصاحبهم الجنود ورجال الدين فقط بل كان الأطباء جزءًا مكملًا لهؤلاء المجموعات.
طبيب المقبرة
توضح الباحثة الآثارية رنا التونسي ما المقصود بطبيب المقبرة وهو طبيب يشرف على الرعاية الصحية للعاملين فى المقبرة الملكية، ويوجد تمثال للطبيب "بوير" يرجع إلى عصر الأسرة التاسعة عشر محفوظ بالفاتيكان منقوش عليه لقبه “كبير الأطباء في الجبانة" .
وهناك أيضاً ما يسمى ملازم طبيب (المساعد) لمجموعة العمل فقد كان يشارك هؤلاء العاملين في العمل باعتباره واحدًا منهم، وحينما تتواجد الحاجة لمساعدته الطبية يقوم بممارسة عمله، فهناك الأوستراكا(5634) تنسب لبقايا قرية عمال دير المدينة محفوظة بالمتحف البريطاني تذكر شخصًا يسمى"با" كان رئيسًا لمجموعة عمال وذكر اسمه ولقبه في الأوستراكا بالشكل الآتي"مع خونسو لعمل الدواء"، كما أمدتنا العديد من الأدلة الأخرى على أدلة وجود الأطباء ضمن فرق العمال حيث يوجد ببردية تورين التي يرجع تاريخها إلى العام السادس عشر من حكم الملك رمسيس التاسع تفاصيل لتوزيع الطعام وتم ذكر اثنين من الكتبة وأسماء فرقة العمال والطبيب الخاص بهذه الفرقة، وذكرت البردية أيضًا أن الطبيب الذى تم تكليفه بالعناية بهذه الفرق من العمال كان اسمه "خع- منو"، وأيضًا طبيبان على التوالي "نفر-ماعت" و"بوير" حصلوا على لقب "رئيس أطباء"، وبالرجوع إلى المسح الذى أجرى على بعض المنازل التي تقع بجبانة طيبة الغربية نجد قائمة مكونة من مائة وثمانين منزلًا ونجد بينهم جملة صريحة "منزل كبير الأطباء خع منو"
وهناك العديد من النصوص فى دير المدينة تشير إلى "swnw" "الطبيب" فقد ذكر هذا اللقب فى نصوص دير المدينة أكثر من مرة حيث وجد 24 نصًا يتعلق بالأطباء،الغالبية العظمى منها نصوص حصص الحبوب والتغذية ونصوص الغياب عن العمل وأخرى جزء من تهمة قانونية وتعود هذه النصوص إلى عصور أسرات مختلفة.
-
علاج العمال
وتنوه الباحثة الآثارية رنا التونسى إلى قطعة من الأوستراكا (51518) تعود إلى النصف الثاني من عصر الأسرة العشرين مسجل عليها بيانا بيانًا لإحدى الشهور بالحبوب التي تم توزيعها على العمال فنرى ذكر لرئيس العمال وسبعة عشر عاملًا وكاتبًا، واثنين من الصبيان وحارس وخدم و طبيبًا يسمى "با" "pA swnw" وهذا التوزيع هو توزيع حصص الإعاشة حيث تم ذكر الأطباء باستمرار في المجموعة العمالية وهذا يدل على أن وجوده في مجموعات العمال ليس وجودًا طارئًا بل وظيفة دائمة ومستمر أيضاً هناك نقش مهم للغاية من نقوش مقبرة النحات "إيبوى"(217TT) ترجع إلى عصر الملك "رمسيس الثاني" حيث صوّر النقش بوضوح الرعاية الطبية التي تلقّاها اثنين من العمال على يد اتنين من الأطباء في مواقع البناء وأيضًا أمدنا بمعلومات بسيطة عن بعض الإصابات التي يمكن أن يتعرض لها العمال، كما صوّر المهام المختلفة لهؤلاء الأطباء في دير المدينة، فنجد أحد الأطباء وهو أخصائي عيون على ما يبدو ينزع جسمًا غريبًا من عين أحد العمال في حين كان الطبيب الآخر يعالج كوع أحد العمال وأحد المساعدين يعد له جبيرة لمنع حركة ذراع المريض
ويتضح من المنظر أن إصابة العاملين حدثت لهم في أثناء العمل مما يبرهن على وجود مراكز الطوارئ أو سرعة إجراء الاسعافات الأولية ويبرهن على وجود الأطباء قريبًا من مواقع العمال ويظهر سمة مهمة من سمات الطب في مصر القديمة وهو التخصص
مساعد الطبيب
وتؤكد الباحثة الآثارية رنا التونسى أن مظاهر الاهتمام الطبي بالعمال اتضحت فى قطعة فخارية محفوظة في المتحف البريطاني تحت رقم (BM5634) مؤرخة بالعام الأربعين من حكم الملك رمسيس الثاني تشرح قصة عامل بقرية دير المدينة يدعى "با-حرى-با-جت" وهو شخصية مشهورة بالقرية على أنه حل محل طبيب وخصص وقتًا لزيارة مرضاه يوميًا دون أي شكوى من مشرف العمال في إشارة إلى أنه مساعد طبيب.
وكان هناك مساعدون آخرون يقومون بأدوار أكثر تخصصًا فنجد في قرية دير المدينة "المضمد" وكانت غالبًا تستخدم للمحنطين وربما تحمل معنى الممرض الذى يضمد الجروح، وقد ذكرت بردية "أدوين سميث" اللفظ هذا في الحالة التاسعة ولكن "برستيد" يرى أن الذى يضمد هو الذى يعطى الضمادات للطبيب.
وتم وصف شخصًا آخر مسئولًا عن علاج ضحايا لدغات العقارب من سكان القرية، يذكر فى سجلات الغياب على أنه بصحبة أحد العمال المرضى ليجهز له الدواء أو لأحد أفراد أسرته كما يحدث الآن في عصرنا الحالي أن مساعد الطبيب ليس بالضرورة مساعد الطبيب ان يكون طبيبًا ولا بالضرورة أن يكون درس الطب من الأساس
وكان هناك أطباء لعلاج ضحايا حوادث العمل يستخدمون الوسائل المتاحة ولكن لا شك أنهم اتبعوا بروتوكولًا محددًا جيدًا حيث يتعين علاج كل حالة إكلينيكية حسب نفس المنطق.
الإجازة المرضية
وتابعت الباحثة الآثارية رنا التونسى بأن هناك أجازات مرضية من حق العمال وحقه في العلاج، وتشير الوثائق الكتابية إلى أن المرضى والمصابين من العمال كانوا يحصلون على الراحة كقانون للعمل بشكل عام كما أن واحدة من بقايا الأوستراكا التي ترجع إلى مواقع العمال بدير المدينة تحتوى على هذه الملاحظة: "الرئيس لا يأمر [العامل] المريض برفع الحجر"
وبدراسة بقايا الأوستراكات الخاصة بقرية دير المدينة يبدو أن الإجازات المرضية كانت مدعومة حكوميًا لا يخصم بسببها من مقرراتهم الشهرية (مدفوعة الأجر) وحتى الأدوية التي توزعها الدولة ليست مجرد مكونات للرعاية الطبية مقصورة على المرضى ولكنها كانت جوانب أساسية للرعاية الصحية في دير المدينة، مما يوضح جانبًا مهمًا بالرعاية الصحية التي ترعاها الدولة للعمال منذ آلاف السنين، ولم يكن يسمح للعمال المرضى بالعودة إلى عملهم إلا بعد التأكد من شفائهم التام
كما اهتمت الدولة أيضًا بالتغذية المناسبة للعمال أثناء إقامة مشروعهم القومي وبالتالي تم الحرص على وجود منظومة من مقدمي الرعاية الشخصية والتغذية لأنها سوف تؤدي إلى حالة صحية أفضل، وعلى أي حال لم يكن هناك مشكلة غذاء في مصر القديمة لأن جغرافية مصر واعتدال مناخها طوال العام و تعداد السكان ومساحات الأراضي الزراعية طالما كان فيضان النيل مناسبًا أحدث نوعًا من التوازن بين عدد السكان والمنتجات الغذائية مما أتاح لهم فرصة عظيمة للقيام بالكثير من الأنشطة الأخرى بعيدة عن السعي لتوفير الغذاء
ويوجد بعض الأوستراكات المسجل عليها كميات الحبوب المخصصة للعمال في مقابر دير المدينة موضحة نصيب الفرد من القمح والشعير مع إمكانية تبديل بعضها بالخضراوات والفاكهة والسمك أو اللحم، وفى المشروعات الكبرى كبناء الأهرامات أو خروج البعثات للمحاجر تُحدد كمية الأطعمة الخاصة بالعمال تبعًا للمهمة المكلف بها بإجراء عملية حسابية لحساب كمية الغذاء اللازمة للعمال
ففي عصر الملك سيتى الأول خرجت بعثة إلى محاجر السلسلة وكان نصيب الفرد منهم 1.8 كيلو جرام من الخبز وحزمتين من الخضر وقطعة من اللحم مشوي وهذه الكمية من الخبز وحده تساوى 6480 كالوري وهي تمثل ضعف ما يحتاجه العامل اليدوي الخفيف.