اقرأ التفاصيل
recent
أخبار عاجلة

الكاتبة منال خليل - تكتب - عُبُورٌ بَارِدٌ

الحجم

 عُبُورٌ بَارِدٌ




    عُبُورٌ بَارِدٌ

بقلم : الكاتبة منال خليل 


استيقظت "فريدة الأشرف" على وقع أنفاسها المتسارعة وعرق بارد يسيل على جيدها.... جفناها ثقيلان، وكأنهما يحملان بقايا كابوس لم ينتهِ بعد تحسست الغطاء ببطء، كما لو كانت تبحث عن أثر، عن دليل يؤكد أن ما رأته قبل لحظات لم يكن حقيقياً .


الغرفة كما هي… النافذة نصف مفتوحة والهواء البارد يتسلل إليها، يحرك الستائر بخفة كأنه يعبث بالأشياء بحثً عن سر دفين... الأباجورة الصغيرة على الكومود ما زالت مضاءة، تبعث ضوءا أصفر واهن فوق دفتر مفتوح، بجانبه قلم حبر ملقى بعشوائية، وكأنه سقط من يدها أثناء الكتابة.


لكنها لم تكن تكتب … كانت تحلم


- "مازن النابلسي" جاءها في المنام... جاء كما اعتاد أن يأتي في الواقع… بلا موعد، بلا مقدمات، بنفس الثقة، بنفس الخطوات التي تحمل شيئًا من الغرور، بنفس النظرة التي كانت يوماً كل شيء، ثم أصبحت لا شيء.

رأته كما لو أنه لم يرحل يوما، كأن غيابه لم يكن سوى لحظة عابرة في عمر ممتد.

 وقف أمامها، يمد يده نحوها، يناديها باسمه الذي لم تعد تحب سماعه بصوته

"فريدة… اشتقتُ إليكِ"

كان صوته واضحا، قويا، لكنه لم يصل إلى قلبها كما كان يفعل. لم يهتز شيء بداخلها لم يخفق قلبها لم ترتجف، كما كان يحدث حين كان يناديها بذلك الصوت العميق الذي كان يخفي وراءه ألف معنى وألف كذبة أيضا.

نظرت إليه… رأته بنفس الأناقة المعتادة البذلة الرمادية، الشعر المصفف بعناية الساعة الفاخرة التي طالما لمّع زجاجها بإصبعه حين يتكلم، وكأنه يذكرها بقيمته.


لكن شيئًا ما كان مختلفا… عينيه كما لو انها فارغه!

لم تعد ترى فيهما ذلك البريق القديم... بدا كأنه فقد شيئًا لم يكن يعرف أنه يمكن أن يخسره… ربما كانت هي ذاتها 

"لماذا أتيتَ؟"

سألته وهي تعقد ذراعيها على صدرها. 

صوتها لم يكن ضعيفا، لم يكن مرتعشا كما كان في السابق، لم يحمل تلك النبرة التي اعتاد أن يسمعها حين كانت تسأله عن غيابه، عن أكاذيبه، عن الخيانة التي كانت تلمحها في زوايا كلماته وجانب فمه، دون أن تملك الدليل عليها.


- في الصباح، عندما بدأ ضوء الشمس يتسلل خجولا عبر الستائر، كانت فريدة ما تزال جالسة على طرف الفراش، تحتضن نفسها بصمت لم تكن تبكي، لم تكن غاضبة

لم تكن تشعر بأي شيء… سوى الخواااء .

وذلك الفراغ البارد الذي يتركه شخص اعتقدت يوما أنه جزء من روحك، ثم تكتشفين فجأة أنه كان مجرد ظل، تلاشى عندما انطفأت الأضواء.


"مازن النابلس "

كم مرة سألته عن مشاعره؟ عن حقيقة ما بينهما؟ كم مرة حاولت أن تفسر تناقضاته؟ لماذا كان يعود كلما قررت الرحيل؟ لماذا كان يجعلها تشعر بأنها كل شيء، ثم ينسحب كأنها لا شيء؟

كان يقول دائما:

 "أنتِ تعقّدين الأمور، فريدة"


كانت تصمت... لكنها لم تكن تعقد شيئاً كانت فقط تحاول أن تفهم، كانت تحاول أن تجد في عينيه إجابة واحدة صادقة. 

تفسير لم يأت أبداً

والآن، وهي تحدق في الجدار المقابل تسأل نفسها:

هل يدرك حجم الخراب الذي سببه لي؟

- هل يدرك ما تركه بداخلها؟ هذا الثقب الأسود الذي ابتلع كل إحساس بالأمان

 هذه الحيرة التي جعلتها تشك حتى في إحساسها؟ هل يفهم كيف تصبح الحياة صعبة حين تفقد ثقتك في كل شيء؟ حين تصبح العلاقات مجرد احتمال للخداع

 حين يصبح الحب ذكرى تؤلم أكثر مما تسعد؟

لكنها تعرف الجواب…  " لا "

مازن لن يدرك أبدا...  لن يفهم كيف تحولت من امرأة تحب الحياة، تؤمن بالحب، تنتظر الغد بشغف… إلى امرأة تخشى التعلق تخشى الوعود، تخشى نفسها حين تميل إلى التصديق... وترفض الإرتباط. 

- لن يدرك كيف علّمها أن الرجل يمكن أن يكون زلزالًا يهدم كل شيء دون أن يشعر بالذنب، دون أن يلتفت إلى الأنقاض، دون أن يتوقف لحظة ليسأل نفسه:

ماذا تركت خلفي؟

لكنه سيشعر بذلك يوماً… ربما حين يجلس وحده، عندما تتراكم الخيبات حوله، عندما يفقد شيئًا كان يظنه مضموناً، عندما يرى في عيون امرأة أخرى تلك النظرة التي رأتها فريدة يوما بعيونه… النظرة التي لم يفهمها، ولم يهتم بها، حتى فَقَدَها.

حينها فقط، سيدرك

لكن سيكون الأوان قد فات.

- راته فريده يبتسم، بنفس طريقته القديمة، بنفس المراوغة التي كان يظنها كافية لإخماد أسئلتها... مد يده ليحرك خصلة من شعرها، لكنها تراجعت… خطوة واحدة فقط، لكنها كانت كافية ليُدرك 

"لم أعُد أنتظر لمساتك، مازن"

قالتها كأنها تقطع آخر خيط بينهما رأته يبتسم مرة أخرى، لكنها كانت هذه المرة ابتسامة غريبة، بلا معنى، بلا أثر.

ثم بدأ يتلاشى… لم تختفِ صورته فجأة

 بل تلاشت ملامحه شيئًا فشيئًا، كأن الزمن نفسه يُعيد كتابته، يمحو وجوده كما محته من قلبها، كما محته من أيامها.


استيقظت فريده وهي تشعر بشيء غريب… شيء يشبه الراحة، لكنه ليس راحة تماماً.

نهضت من الفراش، مشت ببطء إلى النافذة، فتحتها على مصراعيها، ثم أغمضت عينيها وهي تستنشق الهواء البارد… لم يعد هناك شيء من الماضي في هذا المكان، لم يعد هناك إلا صباحٌ جديد وأيام قادمة… بدون مازن النابلسي

عادت إلى ذلك الدفتر ، التقطت القلم الذي سقط منها، وكتبت بخط ثابت:

"الليلة، رأيتُ "

مازن النابلسي

" للمرة الأخيرة…وكان شفافاً كأنه لم يكن"

google-playkhamsatmostaqltradent